وَالْمُبَشِّرُ: الْمُخْبِرُ بِالْبُشْرَى وَالْبِشَارَةِ. وَهِيَ الْحَادِثُ الْمُسِرُّ لِمَنْ يُخْبَرُ بِهِ والوعد بِالْعَطِيَّةِ، والنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَشِّرٌ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْمُطِيعِينَ بِمَرَاتِبِ فَوْزِهِمْ. وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْوَصْفُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى الْخَيْرِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَهُوَ قِسْمُ الِامْتِثَالِ مِنْ قِسْمَيِ التَّقْوَى، فَإِنَّ التَّقْوَى امْتِثَالُ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ، وَالْمَأْمُورَاتُ مُتَضَمِّنَةٌ الْمَصَالِحَ فَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ بِشَارَةَ فَاعِلِيهَا بِحُسْنِ الْحَالِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ.
وَقُدِّمَتِ الْبِشَارَةُ عَلَى النذارة لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّبْشِيرُ لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ، وَلِكَثْرَةِ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أُمَّتِهِ.
وَالنَّذِيرُ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِنْذَارِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِحُلُولِ حَادِثٍ مُسِيءٍ أَوْ قرب حُلُوله، والنبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُنْذِرٌ لِلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ دِينِهِ مِنْ كَافِرِينَ بِهِ وَمِنْ أَهْلِ الْعِصْيَانِ بِمُتَفَاوِتِ مُؤَاخَذَتِهِمْ عَلَى عَمَلِهِمْ.
وَانْتَصَبَ شاهِداً عَلَى الْحَالِ مِنْ كَافِ الْخِطَابِ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ أَرْسَلْنَاكَ مُقَدَّرًا أَنْ تَكُونَ شَاهِدًا عَلَى الرُّسُلِ وَالْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمَثَّلَ سِيبَوَيْهِ لِلْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ بِقَوْلِهِ: مُرِرْتُ بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صَائِدًا بِهِ.
وَجِيءَ فِي جَانِبِ النِّذَارَةِ بِصِيغَةِ فَعِيلٍ دُونَ اسْم الْفَاعِل لإِرَادَة الِاسْمِ فَإِنَّ النَّذِيرَ فِي كَلَامِهِمُ اسْمٌ لِلْمُخْبِرِ بِحُلُولِ الْعَدُوِّ بِدِيَارِ الْقَوْمِ. وَمِنَ الْأَمْثَالِ: أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، أَيِ الْآتِي بِخَبَرِ حُلُولِ العدوّ بديار قوم. وَالْمُرَادُ بِالْعُرْيَانِ أَنَّهُ يَنْزِعُ عَنْهُ قَمِيصَهُ لِيُشِيرَ بِهِ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ فَيَرَاهُ مَنْ لَا يَسْمَعُ نِدَاءَهُ، فَالْوَصْفُ بِنَذِيرٍ تَمْثِيلٌ بِحَالِ نَذِيرِ الْقَوْمِ كَمَا قَالَ: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ: ٤٦] لِلْإِيمَاءِ إِلَى تَحْقِيقِ مَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ حَلَّ بِهِمْ وَكَأَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْهُ مُخْبِرٌ عَنْ أَمْرٍ قَدْ وَقَعَ، وَهَذَا لَا يُؤَدِّيهِ إِلَّا اسْمُ النَّذِيرِ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ الْوَصْفُ بِالنَّذِيرِ وَقَلَّ الْوَصْفُ بِمُنْذِرٍ.
وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاء: ٢١٤] خَرَجَ حَتَّى صَعَدَ الصَّفَا، فَنَادَى: يَا
صَبَاحَاهْ (كَلِمَةٌ يُنَادِي بِهَا مَنْ يَطْلُبُ النَّجْدَةَ) فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنَّ أَخْبَرَتْكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ»
. فَهَذَا يُشِيرُ إِلَى تَمْثِيلِ الْحَالَةِ الَّتِي اسْتَخْلَصَهَا
بِقَوْلِهِ: (فَإِنِّي نَذِيرٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute