وَالْأُمَّةُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ وَالْمُرَادُ مِنْهَا هُنَا الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي يَجْمَعُهَا جَامِعٌ لَهُ بَالٌ مِنْ نَسَبٍ أَوْ دِينٍ أَوْ زَمَانٍ، وَيُقَالُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ مَثَلًا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى الْإِيمَانِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ بِزِنَةِ فِعْلَةٍ وَهَذِهِ الزِّنَةُ تَدُلُّ عَلَى الْمَفْعُولِ مِثْلَ لَقْطَةٍ وَضِحْكَةٍ وَقُدْوَةٍ، فَالْأُمَّةُ بِمَعْنَى مَأْمُومَةٍ اشْتُقَّتْ مِنَ الْأَمِّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ الْقَصْدُ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ تَقْصِدُهَا الْفِرَقُ الْعَدِيدَةُ الَّتِي تَجْمَعُهَا جَامِعَةُ الْأُمَّةِ كُلِّهَا، مِثْلُ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّهَا ترجع إليا قَبَائِلُ الْعَرَبِ، وَالْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَيْهَا الْمَذَاهِبُ الْإِسْلَامِيَّةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الْأَنْعَام: ٣٨] فَهُوَ فِي مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ أَيْ كَأُمَمٍ إِذَا تَدَبَّرْتُمْ فِي حِكْمَةِ إِتْقَانِ خَلْقِهِمْ وَنِظَامِ أَحْوَالِهِمْ وَجَدْتُمُوهُ كَأُمَمٍ أَمْثَالِكُمْ لِأَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ كَانَ النَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَنْهُ.
وَقَدِ اسْتُجِيبَتْ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ فِي الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ تَلَاحَقُوا بِالْإِسْلَامِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا حَتَّى أَسْلَمَ كُلُّ الْعَرَبِ إِلَّا قَبَائِلَ قَلِيلَةً لَا تَنْخَرِمُ بِهِمْ جَامِعَةُ الْأُمَّةِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَة: ١٢٩] ، وَأَمَّا مَنْ
أَسْلَمُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فَلَمْ يَلْتَئِمْ مِنْهُمْ عَدَدُ أُمَّةٍ.
وَقَوْلُهُ: وَأَرِنا مَناسِكَنا سُؤَالٌ لِإِرْشَادِهِمْ لِكَيْفِيَّةِ الْحَجِّ الَّذِي أُمِرَا بِهِ مِنْ قَبْلُ أَمْرًا مُجْمَلًا، فَفِعْلُ أَرِنا هُوَ مِنْ رَأَى الْعِرْفَانِيَّةِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ ثَابِتٌ لِفِعْلِ الرُّؤْيَةِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّاغِبُ فِي «الْمُفْرَدَاتِ» وَالزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْمُفَصَّلِ» وَتَعَدَّتْ بِالْهَمْزِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَحَقُّ رَأَى أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ أَصْلَهُ هُوَ الرُّؤْيَةُ الْبَصَرِيَّةُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْعِلْمِ بِجَعْلِ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ شَبِيهًا بِرُؤْيَةِ الْبَصَرِ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ هَمْزُ التَّعْدِيَةِ تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَأَمَّا تَعْدِيَةُ أَرَى إِلَى ثَلَاثَةِ مَفَاعِيلَ فَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ خَاصٌّ وَذَلِكَ إِذَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ الْإِخْبَارَ عَنْ مَعْرِفَةِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ ذَاتٍ فَيَذْكُرُ اسْمَ الذَّاتِ أَوَّلًا وَيَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ مُرَادَهُ فَيُكْمِلُهُ بِذِكْرِ حَالٍ لَازِمَةٍ إِتْمَامًا لِلْفَائِدَةِ فَيَقُولُ رَأَيْتُ الْهِلَالَ طَالِعًا مَثَلًا ثُمَّ يَقُولُ:
أَرَانِي فُلَانٌ الْهِلَالَ طَالِعًا، وَكَذَلِكَ فِعْلُ عَلِمَ وَأَخَوَاتِهِ مِنْ بَابِ ظَنَّ كُلِّهِ وَمِثْلُهُ بَابُ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ عَدَلْتَ عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي فِي بَابِ ظَنَّ أَوْ عَنِ الْخَبَرِ فِي بَابِ كَانَ إِلَى الْإِتْيَانِ بِمَصْدَرٍ فِي مَوْضِعِ الِاسْمِ فِي أَفْعَالِ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ لَاسْتَغْنَيْتَ عَنِ الْخَبَرِ وَالْمَفْعُولِ الثَّانِي فَتَقُولُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute