للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقِيلَ: مَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَمِنْهُ انْتِفَاء الْغِشّ فِي الْعَمَل، وَقِيلَ: الْأَمَانَةُ الْعَقْلُ، وَقِيلَ: الْخِلَافَةُ، أَيْ خِلَافَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي أَوْدَعَهَا الْإِنْسَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠] الْآيَةَ.

وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَرْجِعُ إِلَى أَصْنَافٍ: صِنْفُ الطَّاعَاتِ وَالشَّرَائِعِ، وَصِنْفُ الْعَقَائِدِ، وَصِنْفٌ ضِدَّ الْخِيَانَةِ، وَصِنْفُ الْعَقْلِ، وَصِنْفُ خِلَافَةِ الْأَرْضِ.

وَيَجِبُ أَنْ يُطْرَحَ مِنْهَا صِنْفُ الشَّرَائِعَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَازِمَةً لِفِطْرَةِ الْإِنْسَانِ فَطَالَمَا خَلَتْ أُمَمٌ عَنِ التَّكْلِيفِ بِالشَّرَائِعِ وهم أهل الفتر فَتَسْقُطُ سِتَّةُ أَقْوَالِ وَهِيَ مَا فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ.

وَيَبْقَى سَائِرُ الْأَصْنَافِ لِأَنَّهَا مُرْتَكِزَةٌ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ وَفِطْرَتِهِ.

فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَمَانَةُ أَمَانَةَ الْإِيمَانِ، أَيْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَهِيَ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى جِنْسِ بَنِي آدَمَ وَهُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٧٢] . فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ دَلَائِلَ الْوَحْدَانِيَّةِ فَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِلْفِكْرِ الْبَشَرِيِّ فَكَأَنَّهَا عهد عَهْدُ اللَّهِ لَهُمْ بِهِ وَكَأَنَّهُ أَمَانَةٌ ائْتَمَنَهُمْ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ أَوْدَعَهَا فِي الْجِبِلَّةِ مُلَازِمَةً لَهَا، وَهَذِهِ الْأَمَانَةُ لَمْ تُودَعْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمَانَةَ مِنْ قَبِيلِ الْمَعَارِفِ وَالْمَعَارِفُ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَتَّصِفُ بِهِ إِلَّا مَنْ قَامَتْ بِهِ صِفَةُ الْحَيَاةِ لِأَنَّهَا مُصَحِّحَةُ الْإِدْرَاكِ لِمَنْ قَامَتْ بِهِ، وَيُنَاسِبُ هَذَا الْمَحْمَلَ قَوْلُهُ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ [الْأَحْزَاب: ٧٣] ، فَإِنَّ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ خَالُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَمَانَةُ هِيَ الْعَقْلَ وَتَسْمِيَتُهُ أَمَانَةً تَعْظِيمٌ لِشَأْنِهِ وَلِأَن الْأَشْيَاء النفيسة تُوَدَعُ عِنْدَ مَنْ يَحْتَفِظُ بِهَا.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُسْتَوْدَعَ الْعَقْلِ مِنْ بَيْنِ الْمَوْجُودَاتِ الْعَظِيمَةِ لِأَنَّ خِلْقَتَهُ مُلَائِمَةٌ لِأَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَإِنَّ الْعَقْلَ يَبْعَثُ عَلَى التَّغَيُّرِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَمِنْ مَكَانٍ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَوْ جُعِلَ ذَلِكَ فِي سَمَاءٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي جَبَلٍ مِنِ الْجِبَالِ أَوْ جَمِيعِهَا لَكَانَ سَبَبًا فِي