وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [سبأ: ٩] لِأَنَّ الْمُنِيبَ لَا يَخْلُو مِنَ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْبَعْثِ وَمِنْ عِقَابِ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ اهـ. فَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا لِأَنَّهُ كَالتَّخَلُّصِ مِنْهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمُنِيبِينَ الْمُتَفَكِّرِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى:
وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: ١٧] هـ. يُرِيدُ الطِّيبِيُّ أَنَّ دَاوُدَ مِنْ أَشْهَرِ الْمُثُلِ فِي الْمُنِيبِينَ بِمَا اشْتُهِرَ بِهِ مِنِ انْقِلَابِ حَالِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ رَاعِيًا غَلِيظًا إِلَى أَنِ اصْطَفَاهُ اللَّهُ نَبِيئًا وَمَلِكًا صَالِحًا مُصْلِحًا لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ، فَهُوَ مَثَلُ الْمُنِيبِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ وَقَالَ: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: ٢٤] ، فَلِإِنَابَتِهِ وَتَأْوِيبِهِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِنِعَمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَبَارَكَهُ وَبَارَكَ نَسْلَهُ. وَفِي ذِكْرِ فَضْلِهِ عِبْرَةٌ لِلنَّاسِ بِحُسْنِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْمُنِيبِينَ تَعْرِيضًا بِضِدِّ ذَلِكَ لِلَّذِينِ لَمْ يَعْتَبِرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، وَفِي هَذَا
إِيمَاءٌ إِلَى بِشَارَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ بَعْدَ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ وَضِيقِ حَاله مِنْهُم سيؤول شَأْنُهُ إِلَى عِزَّةٍ عَظِيمَةٍ وَتَأْسِيسِ مُلْكِ أُمَّةٍ عَظِيمَةٍ كَمَا آلَتْ حَالُ دَاوُدَ، وَذَلِكَ الْإِيمَاءُ أَوْضَحُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ الْآيَةُ فِي سُورَةِ ص [١٧] .
وَسَمَّى الطِّيبِيُّ هَذَا الِانْتِقَالَ إِلَى ذِكْرِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ تَخَلُّصًا، وَالْوَجْهُ أَنْ يُسَمِّيَهُ اسْتِطْرَادًا أَوِ اعْتِرَاضًا وَإِنْ كَانَ طَوِيلًا، فَإِنَّ الرُّجُوعَ إِلَى ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مَا ذُكِرَ مِنْ قِصَّةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَسَبَأٍ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ إِبْطَالَ أَحْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ: ٢٠] .
وَتَقْدِيم التَّعْرِيفُ بِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٦٣] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٨٤] .
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنَّا ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِ آتَيْنا، أَيْ مِنْ لَدُنَّا وَمِنْ عِنْدِنَا، وَذَلِكَ تَشْرِيفٌ لِلْفَضْلِ الَّذِي أُوتِيَهُ دَاوُدُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا [الْقَصَص: ٥٧] . وَتَنْكِيرُ فَضْلًا لِتَعْظِيمِهِ وَهُوَ فَضْلُ النُّبُوءَةِ وَفَضْلُ الْمُلْكِ، وَفَضْلُ الْعِنَايَةِ بِإِصْلَاحِ الْأُمَّةِ، وَفَضْلُ الْقَضَاءِ بِالْعَدْلِ، وَفَضْلُ الشَّجَاعَةِ فِي الْحَرْبِ، وَفَضْلُ سَعَةِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ، وَفَضْلُ إِغْنَائِهِ عَنِ النَّاسِ بِمَا أُلْهِمَهُ مِنْ صُنْعِ دُرُوعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute