رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَنَزَّهَ عَنِ الْجُلُوسِ فِي الْمَحَارِيبِ وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ الطَّاقَ أَوِ الطَّاقَةَ، وَرُبَّمَا سَمَّوْهُ الْمَذْبَحَ، وَلَمْ أَرَ أَنَّهُمْ سَمَّوْهُ أَيَّامَئِذٍ مِحْرَابًا، وَإِنَّمَا كَانُوا يُسَمُّونَ بِالْمِحْرَابِ مَوْضِعَ ذَبْحِ الْقُرْبَانِ فِي الْكَنِيسَةِ، قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
دُمْيَةٌ عِنْدَ رَاهِبٍ قِسِّيسٍ ... صَوَّرُوهَا فِي مَذَابِحِ الْمِحْرَابِ
وَالْمَذْبَحُ وَالْمِحْرَابُ مُقْتَبَسَةٌ مِنَ الْيَهُودِ لِمَا لَا يَخْفَى مِنْ تَفَرُّعِ النَّصْرَانِيَّةِ عَنْ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ.
وَمَا حُكِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إِنْ صَحَّ فَإِنَّمَا يُعْنَى بِهِ بَيْتٌ لِلصَّلَاةِ خَاصٌّ. وَرَأَيْتُ إِطْلَاقَ الْمِحْرَابِ عَلَى الطَّاقَةِ الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ فِي كَلَامِ الْفَرَّاءِ، أَيْ فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّانِي، نَقَلَ الْجَوْهَرِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمَحَارِيبُ صُدُورُ الْمَجَالِسِ وَمِنْهُ سُمِّيَ مِحْرَابُ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ الْمِحْرَابَ لَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ مُطْلَقًا عَلَى مَكَانِ الْعِبَادَةِ.
وَمِنَ الْغَلَطِ أَنْ جَعَلُوا فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيهِ صُورَةَ مِحْرَابٍ مُنْفَصِلٍ يُسَمُّونَهُ مِحْرَابَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَامَةٌ عَلَى تَحَرِّي مَوْقِفِهِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ ابْتَدَأُوا فَجَعَلُوا طاقات صَغِيرَة عَلامَة عَلَى الْقِبْلَةِ لِئَلَّا يَضِلَّ الدَّاخِلُ إِلَى الْمَسْجِدِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ كَثِيرًا، ثُمَّ وَسَّعُوهَا شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى صَيَّرُوهَا فِي صُورَةِ نِصْفِ دِهْلِيزٍ صَغِيرٍ فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ يَسَعُ مَوْقِفَ الْإِمَامِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ أَوَّلَ وَضْعِهِ كَانَ عِنْدَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ الْأُمَوِيِّ فِي دِمَشْقَ، ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمَرَ بِجَعْلِهِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ حِينَ وَسَّعَهُ وَأَعَادَ بِنَاءَهُ، وَذَلِكَ فِي مُدَّةِ إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى الْمَدِينَةِ حَسْبَمَا ذَكَرَ السَّمْهُودِيُّ فِي كِتَابِ «خُلَاصَةِ الْوَفَا بِأَخْبَارِ دَارِ الْمُصْطَفَى» .
وَالتَّمَاثِيلُ: جَمْعُ تِمْثَالٍ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَوَزْنُهُ تِفْعَالٌ لِأَنَّ التَّاءَ مَزِيدَةٌ وَهُوَ أَحَدُ أَسْمَاءٍ مَعْدُودَةٍ جَاءَتْ عَلَى وَزْنِ تِفْعَالٍ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَأَمَّا قِيَاسُ هَذَا الْبَابِ وَأَكْثَرُهُ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ.
وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ مِنْهَا مَصَادِرُ وَمِنْهَا أَسْمَاءٌ، فَأَمَّا الْمَصَادِرُ فَأَكْثَرُهَا بِفَتْحِ التَّاءِ إِلَّا مَصْدَرَيْنِ: تِبْيَانٌ، وَتِلْقَاءٌ بِمَعْنَى اللِّقَاءِ. وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فورد مِنْهَا عَلَى الْكَسْرِ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ اسْمًا مِنْهَا: تِمْثَالٌ، أَحْصَاهَا ابْنُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute