فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: ١٦،
١٧] .
فَالْمُسَبَّبُ عَلَى الْكُفْرِ هُوَ اسْتِئْصَالُهُمْ وَهُوَ مَدْلُولُ قَوْلِهِ: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ كَمَا سَتَعْرِفُهُ، وَالْمُسَبَّبُ عَلَى كُفْرَانِ نِعْمَةِ تَقَارُبِ الْبِلَادِ هُوَ تَمْزِيقُهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، أَيْ تَفْرِيقُهُمْ، فَنَظْمُ الْكَلَامِ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ اللف والنشر المشوّش.
وَدَرَجَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهُمْ دَعَوُا اللَّهَ بِذَلِكَ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُقِرِّينَ بِاللَّهِ فِيمَا يَظْهَرُ فَإِنْ دَرَجْنَا عَلَى أَنَّهُمْ عَرَفُوا اللَّهَ وَدَعَوْهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْدُرُوا نِعْمَتَهُ الْعَظِيمَةَ قَدْرَهَا فَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ تَزُولَ تِلْكَ الْقُرَى الْعَامِرَةُ لِيَسِيرُوا فِي الْفَيَافِي وَيَحْمِلُوا الْأَزْوَادَ مِنَ الْمِيرَةِ وَالشَّرَابِ.
ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ مِمَّنْ كَانُوا أَدْرَكُوا حَالَةَ تَبَاعُدِ الْأَسْفَارِ فِي بِلَادِهِمْ قبل أَن تؤول إِلَى تِلْكَ الْحَضَارَةِ، أَوْ مِمَّنْ كَانُوا يَسْمَعُونَ أَحْوَالَ الْأَسْفَارِ الْمَاضِيَةِ فِي بِلَادِهِمْ أَوْ أَسْفَارَ الْأُمَمِ الْبَادِيَةِ فَتَرُوقُ لَهُمْ تِلْكَ الْأَحْوَالُ، وَهَذَا مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ النَّاشِئِ عَنْ فَسَادِ الذَّوْقِ فِي إِدْرَاكِ الْمَنَافِعِ وَأَضْدَادِهَا.
وَالْمُبَاعَدَةُ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ وَالتَّضْعِيفِ. فَالْمَعْنَى: رَبَّنَا أَبْعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا.
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ»
. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ باعِدْ. وَقَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرٍو بَعِّدْ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَتَشْدِيدِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ رَبَّنا بِالرَّفْعِ وباعِدْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الدَّالِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ تَذَمَّرُوا مِنْ ذَلِكَ الْعُمْرَانِ وَاسْتَقَلُّوهُ وَطَلَبُوا أَنْ تَزْدَادَ الْبِلَادُ قُرْبًا وَذَلِكَ مِنْ بطر النِّعْمَة وَطلب مَا يُتَعَذَّرُ حِينَئِذٍ.
وَالتَّرْكِيبُ يُعْطِي مَعْنَى «اجْعَلِ الْبُعْدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا» . وَلَمَّا كَانَتْ بَيْنَ تَقْتَضِي أَشْيَاءَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى: بَاعِدْ بَيْنَ السَّفَرِ وَالسَّفَرِ مِنْ أَسْفَارِنَا. وَمَعْنَى ذَلِكَ إِبْعَادُ الْمَرَاحِلِ لِأَنَّ كُلَّ مَرْحَلَةٍ تُعْتَبَرُ سَفَرًا، أَيْ بَاعِدْ بَيْنَ مَرَاحِلِ أَسْفَارِنَا.
وَمَعْنَى فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ جَعَلْنَا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْجَنَّاتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute