كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ يَقْتَضِي الْتِزَامَ فَتْحِ هَمْزَةِ سَبَأٍ كَشَأْنِ الْمُرَكَّبِ الْمَزْجِيِّ. قَالَ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» : وَبَعْضُهُمْ يُنَوِّنُهُ إِذَا خَفَّفَهُ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
فَيَا لَكِ مِنْ دَارٍ تَفَرَّقَ أَهْلُهَا ... أَيَادِي سَبَا عَنْهَا وَطَالَ انْتِقَالُهَا
وَالْأَكْثَرُ عَدَمُ تَنْوِينِهِ قَالَ كُثَيِّرٌ:
أَيَادِي سَبَا يَا عَزُّ مَا كُنْتُ بَعْدَكُمْ ... فَلَمْ يَحْلُ بِالْعَيْنَيْنِ بَعْدَكِ مَنْظَرُ
وَالْأَيَادِي وَالْأَيْدِي فِيهِ جَمْعُ يَدٍ. وَالْيَدُ بِمَعْنَى الطَّرِيقِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ ذَهَبُوا فِي مَذَاهِبَ شَتَّى يَسْلُكُونَ مِنْهَا إِلَى أَقْطَارٍ عِدَّةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً [الْجِنّ: ١١] . وَقِيلَ: الْأَيَادِي جَمْعُ يَدٍ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ لِأَنَّ سَبَأً تَلِفَتْ أَمْوَالُهُمْ.
وَكَانَتْ سَبَأٌ قَبِيلَةً عَظِيمَةً تَنْقَسِم إِلَى عشر أَفْخَاذٍ وَهُمُ: الْأَزْدُ، وَكِنْدَةُ، وَمَذْحِجُ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ، وَأَنْمَارُ، وَبَجِيلَةُ، وَعَامِلَةُ، وَهُمْ خُزَاعَةُ، وَغَسَّانُ، وَلَخْمٌ، وَجُذَامُ.
فَلَمَّا فَارَقُوا مَوَاطِنَهُمْ فَالسِّتَّةُ الْأَوَّلُونَ تَفَرَّقُوا فِي الْيَمَنِ وَالْأَرْبَعَةُ الْأَخْيَرُونَ خَرَجُوا إِلَى جِهَاتٍ قَاصِيَةٍ فَلَحِقَتِ الْأَزْدُ بِعُمَانَ، وَلَحِقَتْ خُزَاعَةُ بِتِهَامَةَ فِي مَكَّةَ، وَلَحِقَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ بِيَثْرِبَ، وَلَعَلَّهُمْ مَعْدُودُونَ فِي لَخْمٍ، وَلَحِقَتْ غَسَّانُ بِبُصْرَى وَالْغُوَيْرِ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَلَحِقَتْ لَخْمٌ بِالْعِرَاقِ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْقَصَصِ لِهَذَا التَّفَرُّقِ سَبَبًا هُوَ أَشْبَهُ بِالْخُرَافَاتِ فَأَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ. وَعِنْدِي أَن ذَلِك لَا يَخْلُو مِنْ خِذْلَانٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى سَلَبَهُمُ التَّفَكُّرَ فِي العواقب فاستخفّ الشَّيْطَانُ أَحْلَامَهُمْ فَجَزِعُوا مِنِ انْقِلَابِ حَالِهِمْ وَلِمَ يَتَدَرَّعُوا بِالصَّبْرِ حِينَ سُلِبَتْ عَنْهُمُ النِّعْمَةُ وَلَمْ يَجْأَرُوا إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ فَبَعَثَهُمُ الْجَزَعُ وَالطُّغْيَانُ وَالْعِنَادُ وَسُوءُ التَّدْبِيرِ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ عَلَى أَنْ فَارَقُوا أَوْطَانَهُمْ عِوَضًا مِنْ أَنْ يَلُمُّوا شَعْثَهُمْ وَيُرْقِعُوا خَرْقَهُمْ فَتَشَتَّتُوا فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَخْفَى مَا يُلَاقُونَ فِي ذَلِكَ مِنْ نَصَبٍ وَجُوعٍ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَنْفُسِ وَالْحَمُولَةِ وَالْأَزْوَادِ وَالْحُلُولِ فِي دِيَارِ أَقْوَامٍ لَا يَرْثُونَ لِحَالِهِمْ وَلَا يَسْمَحُونَ لَهُمْ بِمُقَاسَمَةِ أَمْوَالِهِمْ فَيَكُونُونَ بَيْنَهُمْ عَافِينَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute