اتَّسَعَ فِي الْمُحَاجَّةِ فَقِيلَ لَهُمْ: إِذَا نَحْنُ أَجْرَمْنَا فَأَنْتُمْ غَيْرُ مُؤَاخَذِينَ بِجُرْمِنَا وَإِذَا عَمِلْتُمْ عَمَلًا فَنَحْنُ غَيْرُ مُؤَاخَذِينَ بِهِ، أَيْ أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مُؤَاخَذٌ وَحْدَهُ بِعَمَلِهِ فَالْأَجْدَى بِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ أَنْ يَنْظُرَ كُلٌّ فِي أَعْمَالِهِ وَأَعْمَالِ ضِدِّهِ لِيَعْلَمَ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ عِنْدَ اللَّهِ.
وَأَيْضًا فُصِلَتْ لِتَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا لِيَخُصَّهَا السَّامِعُ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَدْلُولِهَا فَيَجُوزُ أَنْ تُعْتَبَرَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ اعْتِرَاضٌ بَيِّنٌ أَثْنَاءَ الِاحْتِجَاجِ.
فَمَعْنَى: لَا تُسْئَلُونَ وَلا نُسْئَلُ، أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ لَهُ خُوَيِّصَتُهُ.
وَالسُّؤَالُ: كِنَايَةٌ عَنْ أَثَرِهِ وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْإِجْرَامِ بِمِثْلِهِ، كَمَا هُوَ فِي قَوْله كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
وَقِيلَ إِنَّك مَنْسُوب ومسؤول أَرَادَ وَمُؤَاخَذٌ بِمَا سَبَقَ مِنْكَ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ:
لَذَاكَ أَهْيَبُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ وَإِسْنَادُ الْإِجْرَامِ إِلَى جَانِبِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَنْ مَعَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُخَاطَبِينَ، قَالَ تَعَالَى:
وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ [المطففين: ٣٢] كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤَنِّبُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ خَاطِئُونَ فِي تَجَنُّبِ عِبَادَةِ أَصْنَامِ قَوْمِهِمْ.
وَهَذِهِ نُكْتَةُ صَوْغِهِ فِي صِيغَةِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ عَلَى زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ. وَصِيغَ مَا يَعْمَلُ الْمُشْرِكُونَ فِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِأَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ مِنْهُمْ عَمَلًا تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ يَأْتُونَ عَمَلًا غَيْرَ مَا عَمِلُوهُ، أَيْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ بَعْدَ كُفْرِهِمْ.
وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُوَادَعَةِ لِيَخْلُوَا بِأَنْفُسِهِمْ فَيَنْظُرُوا فِي أَمْرِهِمْ وَلَا يُلْهِيَهِمْ جِدَالُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اسْتِعْرَاضِ ومحاسبة أنفسهم. وَفِيه زِيَادَة إنصاف إِذْ فرض الْمُؤْمِنُونَ الإجرام فِي جَانب أَنْفُسِهِمْ وَأَسْنَدُوا الْعَمَلَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي جَانِبِ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّ النَّظَرَ وَالتَّدَبُّرَ بَعْدَ ذَلِكَ يَكْشِفُ عَنْ كُنْهِ كِلَا الْعَمَلَيْنِ.
وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَعَلُّقٌ بِمُشَارَكَةِ الْقِتَالِ فَلَا تُجْعَلُ مَنْسُوخَةً بآيَات الْقِتَال.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute