الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ لَمْ يَشْكُرُوا رَازِقَهُمْ، وَيَقْدِرُ عَلَى بَعْضِهِمْ فَلَا يَنَالهُ إلّا الشَّقَاءُ. وَهَذَا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ حَثًّا عَلَى الْإِنْفَاقِ. وَالْمُرَادُ الْإِنْفَاقُ فِيمَا أَذِنَ فِيهِ الشَّرْعُ.
وَهَذَا تَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ نَعِيمَ الْآخِرَةِ لَا يُنَافِي نَعِيمَ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [الْبَقَرَة: ٢٠١، ٢٠٢] . فَأَمَّا نَعِيمُ الدُّنْيَا فَهُوَ مُسَبَّبٌ عَنْ أَحْوَالٍ دُنْيَوِيَّةٍ رَتَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَسَّرَهَا لِمَنْ يَسَّرَهَا فِي عِلْمِهِ بِغَيْبِهِ، وَأَمَّا نَعِيمُ الْآخِرَةِ فَهُوَ مُسَبَّبٌ عَنْ أَعْمَالٍ مُبَيَّنَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّالِحِينَ يَحْصُلُ لَهُمُ النَّعِيمُ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ مُنَعَّمُونَ فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَنْعَمَ عَلَى دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَعَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكثير من أيمة الدِّينِ مِثْلِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ وَسَحْنُونٍ.
فَأَمَّا اخْتِيَار الله لنبيئه مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَةَ الزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا فَلِتَحْصُلَ لَهُ غَايَاتُ الْكَمَالِ مِنَ التَّمَحُّضِ لِتَلَقِّي الْوَحْيِ وَجَمِيلِ الْخِصَالِ وَمِنْ مُسَاوَاةِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ فِي أَحْوَالِهِمْ، وَقَدْ بَسَطْنَاهُ بَيَانًا فِي رِسَالَةِ طَعَامِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَرْغِيبِ الْأَغْنِيَاءِ فِي
الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَجَعَلَ الْوَعْدَ بِإِخْلَافِ مَا يُنْفِقُهُ الْمَرْءُ كِنَايَةً عَنِ التَّرْغِيبِ فِي الْإِنْفَاقِ لِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بِإِخْلَافِهِ مَعَ تَأْكِيدِ الْوَعْدِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُحِبُّ ذَلِك من المنفقين.
وَأَكَّدَ ذَلِكَ الْوَعْدَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَبِجَعْلِ جُمْلَةِ الْجَوَابِ اسْمِيَّةً وَبِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ بِقَوْلِهِ: فَهُوَ يُخْلِفُهُ، فَفِي هَذَا الْوَعْدِ ثَلَاثَةُ مُؤَكِّدَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى مَزِيدِ الْعِنَايَةِ بِتَحْقِيقِهِ لِيَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْكِنَايَةِ عَنْ كَوْنِهِ مَرْغُوبَهُ تَعَالَى.
ومِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِمَا فِي مَا مِنَ الْعُمُومِ، وَجُمْلَةُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تَذْيِيلٌ لِلتَّرْغِيبِ وَالْوَعْدِ بِزِيَادَةٍ، لِبَيَانِ أَنَّ مَا يُخْلِفُهُ أَفْضَلُ مِمَّا أَنْفَقَهُ الْمُنْفِقُ. خَيْرُ بِمَعْنَى أَخْيَرَ لِأَنَّ الرِّزْقَ الْوَاصِلَ مِنْ غَيْرِهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ مِنْ فَضْلِهِ أَجْرَاهُ عَلَى يَدِ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ فَإِذَا كَانَ تَيْسِيرُهُ بِرِضًى مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمَرْزُوقِ وَوَعْدٍ بِهِ كَانَ ذَلِكَ أَخْلَقَ بِالْبَرَكَةِ وَالدَّوَامِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ إِخْلَافَ الرِّزْقِ يَقَعُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْإِنْفَاقِ: الْإِنْفَاقُ الْمُرَغَّبُ فِيهِ فِي الدِّينِ كَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْفُقَرَاءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute