للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فِي قَوْلِهِ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِلَخْ فَلِكَوْنِهِ جَوَابًا مُوَالِيًا لِقَوْلِهِمْ: كُونُوا هُوداً [الْبَقَرَة: ١٣٥] بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فَعُلِمَ أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِ الْجَمِيعِ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ الْآتِي:

قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فَلِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَفْرَدَ قُلْ جَمَعَ الضَّمَائِرَ فِي أَتُحَاجُّونَنا، ورَبُّنا، ولَنا، وأَعْمالُنا، ونَحْنُ، ومُخْلِصُونَ، فَانْظُرْ بَدَائِعَ النَّظْمِ فِي هَاتِهِ الْآيَاتِ وَدَلَائِلَ إِعْجَازِهَا.

وَقَدَّمَ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ الْحَقُّ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ مِنَ الشَّرَائِعِ.

وَالْمُرَادُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا الْقُرْآنُ، وَبِمَا عَطَفَ عَلَيْهِ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مِنْ وَحْيٍ وَمَا أُوتُوهُ مِنَ الْكُتُبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّا آمَنَّا بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ تِلْكَ الشَّرَائِعَ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَن بَعْضهَا نسح بَعْضًا، وَأَنَّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا نَسَخَ جَمِيعَهَا فِيمَا خَالَفَهَا فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَالتَّعْبِيرُ فِي جَانِبِ بَعْضِ هَذِهِ الشَّرَائِعِ بِلَفْظِ (أُنْزِلَ) وَفِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ (أُوتِيَ) تَفَنُّنٌ لِتَجَنُّبِ إِعَادَةِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ مِرَارًا، وَإِنَّمَا لَمْ يُفْرَدْ أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ وَلَمْ تُعْطَفْ مُتَعَلَّقَاتُهُ بِدُونِ إِعَادَةِ الْأَفْعَالِ تَجَنُّبًا لِتَتَابُعِ الْمُتَعَلِّقَاتِ فَإِنَّهُ كَتَتَابُعِ الْإِضَافَاتِ فِي مَا نَرَى.

وَالْأَسْبَاطُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ آنِفًا.

وَجُمْلَةُ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ قِيلَ كَيْفَ تُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِهِمْ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِحَقٍّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهَذَا السُّؤَال الْمُقدر ناشىء عَنْ ضَلَالَةٍ وَتَعَصُّبٍ حَيْثُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِرَسُولٍ لَا يَتِمُّ إِلَّا مَعَ الْكُفْرِ بِغَيْرِهِ وَأَنَّ تَزْكِيَةَ أَحَدٍ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالطَّعْنِ فِي غَيْرِهِ، وَهَذِهِ زَلَّةٌ فِي الْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ وَالنِّحَلِ وَالْأَحْزَابِ وَالْأَخْلَاقِ كَانَتْ شَائِعَةً فِي الْأُمَمِ وَالتَّلَامِذَةِ فَاقْتَلَعَهَا الْإِسْلَامُ، قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا فِي «الْإِشَارَاتِ» رَدًّا عَلَى مَنِ انْتَصَرَ فِي الْفَلْسَفَةِ لِأَرِسْطُو وَتَنَقَّصَ أَفْلَاطُونَ «وَالْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ عَظِيمَ الْمِقْدَارِ لَا يُخْرِجُنَا الثَّنَاءُ عَلَيْهِ إِلَى الطَّعْنِ فِي أَسَاتِيذِهِ» .

وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِذَا آمَنُوا بِأَنْبِيَائِهِمْ وَكَفَرُوا بِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، فَالْمَقْصُودُ عَدَمُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِبَعْضِهِمْ، وَهَذَا لَا يُنَافِي اعْتِقَادَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ.

وَأحد أَصْلُهُ وَحَدٌ بِالْوَاوِ وَمَعْنَاهُ مُنْفَرِدٌ وَهُوَ لُغَةٌ فِي وَاحِدٍ وَمُخَفَّفٌ مِنْهُ وَقِيلَ هُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ فَأُبْدِلَتْ وَاوُهُ هَمْزَةً تَخْفِيفًا ثُمَّ صَارَ بِمَعْنَى الْفَرْدِ الْوَاحِدِ فَتَارَةً يَكُونُ بِمَعْنَى مَا لَيْسَ بِمُتَعَدِّدٍ وَذَلِكَ