للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَتَوْجِيهُ النَّهْيِ إِلَى نَفْسِهِ دُونَ أَنْ يُقَالَ فَلَا تَذْهَبْ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الذَّهَابَ مُسْتَعَارٌ إِلَى التَّلَفِ وَالِانْعِدَامِ كَمَا يُقَال: طارت نَفسه شَعَاعًا، وَمِثْلُهُ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرٌ كَقَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:

أَقُولُ لِلنَّفْسِ تَأْسَاءً وَتَعْزِيَةً ... إِحْدَى يَدَيَّ أَصَابَتْنِي وَلَمْ تُرِدِ

لِتَحْصُلَ فَائِدَةُ تَوْزِيعِ النَّهْيِ وَالْخِطَابِ عَلَى شَيْئَيْنِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ فَهُوَ تَكْرِيرُ الْخِطَابِ وَالنَّهْيِ لِكِلَيْهِمَا. وَهِيَ طَرِيقَةُ التَّجْرِيدِ الْمَعْدُودِ فِي الْمُحَسِّنَاتِ، وَفَائِدَةُ التَّكْرِيرِ الْمُوجِبِ تَقْرِيرَ الْجُمْلَةِ فِي النَّفْسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٩] .

وَالْحَسْرَةُ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ [٣٩] .

وَانْتَصَبَ حَسَراتٍ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ لَا تُتْلِفْ نَفْسَكَ لِأَجْلِ الْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ٣] ، وَقَوْلِهِ:

وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ [يُوسُف: ٨٤] أَيْ مِنْ حُزْنِ نَفْسِهِ لَا مِنْ حُزْنِ الْعَيْنَيْنِ.

وَجُمِعَتِ الْحَسَرَاتُ مَعَ أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ صَالِحٌ للدلالة على تكْرَار الْأَفْرَادِ قَصْدًا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى إِرَادَةِ أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْ جِنْسِ الْحَسْرَةِ لِأَنَّ تَلَفَ النَّفْسِ يَكُونُ عِنْدَ تَعَاقُبِ الْحَسَرَاتِ الْوَاحِدَةِ تِلْوَ الْأُخْرَى لِدَوَامِ الْمُتَحَسَّرِ مِنْهُ فَكُلُّ تَحَسُّرٍ يَتْرُكُ حَزَازَةً وَكَمَدًا فِي النَّفْسِ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي لَا تُطِيقُهُ النَّفْسُ فَيَنْفَطِرَ لَهُ الْقَلْبُ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ فِي الطِّبِّ أَنَّ الْمَوْتَ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ كَالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ سَبَبُهُ اخْتِلَالُ حَرَكَةِ الْقَلْبِ مِنْ تَوَارُدِ الْآلَامِ عَلَيْهِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْهَاءِ وَرَفْعِ نَفْسُكَ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ كِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ عَنْ نَهْيِهِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَنَصْبِ نَفْسُكَ عَلَى أَنَّهُ نَهْيُ الرَّسُولِ أَنْ يُذْهِبَ نَفْسَهُ.

وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى فَاءَاتٍ أَرْبَعٍ كُلُّهَا لِلسَّبَبِيَّةِ وَالتَّفْرِيعِ وَهِيَ الَّتِي بَلَغَ بِهَا نَظْمُ الْآيَةِ إِلَى هَذَا الْإِيجَازِ الْبَالِغِ حَدَّ الْإِعْجَازِ وَفِي اجْتِمَاعِهَا مُحَسِّنُ جَمْعِ النَّظَائِرِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ تَصْلُحُ لِإِفَادَةِ التَّصَبُّرِ وَالتَّحَلُّمِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ