للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ.

هَذَا فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعِزَّةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الْأَنْفَال: ٣٠] الْآيَةَ قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ فَعَطْفُهُمْ عَلَى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ تَخْصِيصٌ لَهُمْ بِالذِّكْرِ لِمَا اخْتَصُّوا بِهِ مِنْ تَدْبِيرِ الْمَكْرِ. وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ.

وَالْمَكْرُ: تَدْبِيرُ إِلْحَاقِ الضُّرِّ بِالْغَيْرِ فِي خُفْيَةٍ لِئَلَّا يَأْخُذَ حِذْرَهُ، وَفِعْلُهُ قَاصِرٌ. وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَضْرُورِ بِوَاسِطَةِ الْبَاءِ الَّتِي لِلْمُلَابَسَةِ، يُقَالُ: مَكَرَ بِفُلَانٍ، وَيَتَعَلَّقُ بِوَسِيلَةِ الْمَكْرِ بِبَاءِ السَّبَبِيَّةِ يُقَالُ: مَكَرَ بِفُلَانٍ بِقَتْلِهِ فَانْتِصَابُ السَّيِّئاتِ هُنَا عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِمَصْدَرِ الْمَكْرِ نَائِبًا مَنَابَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِنَوْعِ الْفِعْلِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَالَّذِينَ يمكرون الْمَكْر السيّء.

وَكَانَ حَقُّ وَصْفِ الْمَصْدَرِ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: ٤٣] فَلَمَّا أُرِيدَ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ لَهُمْ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَكْرِ عُدِلَ عَنِ الْإِفْرَادِ إِلَى الْجَمْعِ وَأُتِيَ بِهِ جَمْعَ مُؤَنَّثٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْفَعَلَاتِ مِنَ الْمَكْرِ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ مَكْرِهِمْ هِيَ سَيِّئَةٌ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي لَفْظِ (صَالِحَةٍ) كَقَوْلِ جَرِيرٍ:

كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ ... مِنْ آلِ لَأْمٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي

أَيْ صَالِحَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَأَنْوَاعُ مَكَرَاتِهِمْ هِيَ مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الْأَنْفَال: ٣٠] .

وَالتَّعْرِيفُ فِي السَّيِّئاتِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ مَضْمُونَ الصِّلَةِ عِلَّةٌ فِيمَا يَرِدُ بَعْدَهَا مِنَ الْحُكْمِ، أَيْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ جَزَاءَ مَكْرِهِمْ. وَعُبِّرَ بِالْمُضَارِعِ فِي الصِّلَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ مَكْرِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِ وَأَنه دأبهم وهجّيراهم.

وَلَمَّا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَى مَكْرِهِمْ أَنْبَأَهُمْ أَنَّ مَكْرَهُمْ لَا يَرُوجُ وَلَا يَنْفِقُ وَأَنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ فَلَا يَنْتَفِعُونَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُضَرُّونَ بِسَبَبِهِ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ.