قِيلَ:
وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ أَحَدٍ وَلَا ينقص من عُمُرُهُ، أَيْ عُمُرُ أَحَدٍ وَآخَرَ. وَهَذَا كَلَامٌ جَارٍ عَلَى التَّسَامُحِ فِي مِثْلِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَاعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ السَّامِعِينَ يَفْهَمُونَ الْمُرَادَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ [النِّسَاء: ١٢] لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ الْمَيِّتُ وَارِثًا لِمَنْ قَدْ وَرِثَهُ وَلَا وَارِثٌ مَيِّتًا مَوْرُوثًا لِوَارِثِهِ.
وَالْكِتَابُ كِنَايَةٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يَغِيبُ عَنْهُ مَعْلُومٌ كَمَا أَنَّ الشَّيْءَ الْمَكْتُوبَ لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ مَوْجُودَاتٍ هِيَ كَالْكُتُبِ تُسَطَّرُ فِيهَا الْآجَالُ مُفَصَّلَةً وَذَلِكَ يَسِيرٌ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أَيْ لَا يَلْحَقُهُ مِنْ هَذَا الضَّبْطِ عُسْرٌ وَلَا كَدٌّ.
وَقَدْ وَرَدَ هُنَا الْإِشْكَالُ الْعَامُّ النَّاشِئُ عَنِ التَّعَارُضِ بَيْنَ أَدِلَّةِ جَرَيَانِ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى مَا هُوَ سَابِقٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ، وَبَيْنَ إِضَافَةِ الْأَشْيَاءِ إِلَى أَسْبَابٍ وَطَلَبِ اكْتِسَابِ الْمَرْغُوبِ مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ وَاجْتِنَابِ الْمَكْرُوهِ مِنْهَا فَكَيْفَ يَثْبُتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْأَعْمَارِ زِيَادَةٌ وَنَقْصٌ مَعَ كَوْنِهَا فِي كِتَابٍ وَعِلْمٍ لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ، وَكَيْفَ يرغّب فِي الصَّدَقَة مثلا بِأَنَّهَا تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ، وَأَنَّ صلَة الرَّحِم تزيد فِي الْعُمُرِ.
وَالْمُخَلِّصُ مِنْ هَذَا وَنَحْوِهِ هُوَ الْقَاعِدَةُ الْأَصْلِيَّةُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ كَوْنِ الشَّيْءِ مَعْلُومًا لِلَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُرَادًا، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ وَالْمَعْدُومَةِ. وَالْإِرَادَةُ تَتَعَلَّقُ بِإِيجَادِ الْأَشْيَاءِ عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا تُوجَدُ، فَالنَّاسُ مُخَاطَبُونَ بِالسَّعْيِ لِمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِرَادَةُ فَإِذَا تَعَلَّقَتِ الْإِرَادَةُ بِالشَّيْءِ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ وُقُوعَهُ، وَمَا تَصَرُّفَاتُ النَّاسِ وَمَسَاعِيهِمْ إِلَّا أَمَارَاتٌ عَلَى مَا عَلِمَهُ اللَّهُ لَهُمْ، فَصَدَقَةُ الْمُتَصَدِّقِ أَمَارَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ تَعْمِيرَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُظْهِرُ مَعْلُومَاتِهِ فِي مَظَاهِرِ تَكْرِيمٍ أَوْ تَحْقِيرٍ لِيَتِمَّ النِّظَامُ الَّذِي أَسَّسَ اللَّهُ عَلَيْهِ هَذَا الْعَالَمَ وَيَلْتَئِمُ جَمِيعُ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ هَذَا التَّكْوِينِ عَلَى وُجُوهٍ لَا يُخِلُّ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَكُلُّ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ الْعَالِيَةِ. وَلَا مُخَلِّصَ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ إِلَّا هَذَا الْجَوَابُ وَجَمِيعُ مَا سِوَاهُ وَإِنْ أَقْنَعَ ابْتِدَاءً فَمَآلُهُ إِلَى حَيْثُ ابْتَدَأَ الْإِشْكَال.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute