للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يُوسُف: ١١٠] . وَلِهَذَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا تَأْمِينٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ كَقَوْلِهِ

تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الْأَنْفَال: ٣٣] بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُوَ تَأْمِينٌ مِنْ تَعْمِيمِ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ جَمِيعًا وَلَا يُعَذِّبِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا

كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»

. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَعم وَأحسن. وأيّاما كَانَ فَإِنَّ قَضِيَّةَ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ فَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [١٣] ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَفَتْ أَنْ يَحْمِلَ أَحَدٌ وِزْرَ آخَرَ لَا مُشَارَكَةَ لَهُ لِلْحَامِلِ عَلَى اقْتِرَافِ الْوِزْرِ، وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ فَمَوْرِدُهَا فِي زُعَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ مَوَّهُوا الضَّلَالَةَ وَثَبَتُوا عَلَيْهَا، فَإِنَّ أَوَّلَ تِلْكَ الْآيَةِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: ١٢] ، وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ يَسْتَرْوِحُونَ مِنْهُ الْإِقْبَالَ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْأَحْرَى.

وَأَصْلُ الْوِزْرِ بِكَسْرِ الْوَاوِ: هُوَ الْوِقْرُ بِوَزْنِهِ وَمَعْنَاهُ. وَهُوَ الْحِمْلُ بِكَسْرِ الْحَاءِ، أَيْ مَا يُحْمَلُ، وَيُقَالُ: وَزِرَ إِذَا حَمَلَ. فَالْمَعْنَى: وَلَا تَحْمِلُ حَامِلَةٌ حِمْلَ أُخْرَى، أَيْ لَا يُحَمِّلُ اللَّهُ نَفْسًا حِمْلًا جَعَلَهُ لِنَفْسٍ أُخْرَى عَدْلًا مِنْهُ تَعَالَى لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَدْلَ وَقَدْ نَفَى عَنْ شَأْنِهِ الظُّلْمَ وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ إِنَّمَا هُوَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ.

وَجَرَى وَصْفُ الْوَازِرَةِ عَلَى التَّأْنِيثِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ النَّفْسُ.

وَوَجْهُ اخْتِيَارِ الْإِسْنَادِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ بِتَأْوِيلِ النَّفْسِ دُونَ أَنْ يَجْرِيَ الْإِضْمَارُ عَلَى التَّذْكِيرِ بِتَأْوِيلِ الشَّخْصِ، لِأَنَّ مَعْنَى النَّفْسِ هُوَ الْمُتَبَادَرُ لِلْأَذْهَانِ عِنْدَ ذِكْرِ الِاكْتِسَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٦٤] ، وَقَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ [٣٨] ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الْعَادِلَ مُطَّرِدٌ مُسْتَمِرٌّ حَتَّى لَوِ اسْتَغَاثَتْ نفس مثقلة بالأوزار مَنْ يُنْتَدَبُ لَحَمْلِ أَوْزَارِهَا أَوْ بَعْضِهَا لَمْ تَجِدْ مَنْ يَحْمِلُ عَنْهَا شَيْئًا، لِئَلَّا يَقِيسَ النَّاسُ الَّذِينَ فِي الدُّنْيَا أَحْوَالَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا تَعَارَفُوهُ،