فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقَصْرِ أَنَّهُ قَصْرُ قَلْبٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنْ لَا يَظُنَّ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتِفَاعَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِنِذَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ صَالِحَةً لِمَعْنَى الْقَصْرِ الْحَقِيقِيِّ لَكِنَّ اعْتِبَارَ الْمَقَامِ يُعَيِّنُ اعْتِبَارَ الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ يس [١١] إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَقَوْلُهُ: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فِي سُورَةِ ق [٤٥] ، مَعَ أَنَّ التَّذْكِيرَ بِالْقُرْآنِ يَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمْ.
وَالْغَيْبُ: مَا غَابَ عَنْكَ، أَيِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فِي خَلْوَاتِهِمْ وَعِنْدَ غَيْبَتِهِمْ عَنِ الْعِيَانِ، أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا حَقًّا غَيْرَ مُرَائِينَ أَحَدًا.
وأَقامُوا الصَّلاةَ أَيْ لَمْ يُفَرِّطُوا فِي صَلَاةٍ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ فِعْلُ الْإِقَامَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَلَمَّا كَانَتْ هَاتَانِ الصِّفَتَانِ مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ صَارَ الْمَعْنَى: إِنَّمَا تُنْذِرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَعَدَلَ عَنِ اسْتِحْضَارِهِمْ بِأَشْهَرِ أَلْقَابِهِمْ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ إِلَى اسْتِحْضَارِهِمْ بِصِلَتَيْنِ مَعَ
مَا فِيهِمَا مِنَ الْإِطْنَابِ، تَذَرُّعًا بِذِكْرِ هَاتَيْنِ الصِّلَتَيْنِ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِإِخْلَاصِ الْإِيمَانِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ.
وَجُمْلَةُ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ تَذْيِيلٌ جَارٍ مَجْرَى الْمَثَلِ. وَذِكْرُ التَّذْيِيلِ عَقِبَ الْمُذَيَّلِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْمُذَيَّلُ دَاخِلٌ فِي التذييل بادىء ذِي بَدْءٍ مِثْلَ دُخُولِ سَبَبِ الْعَامِّ فِي عُمُومِهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ دُونَ أَنْ يُخَصَّ الْعَامُّ بِهِ، فَالْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ خَشَوْا رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ هُمْ مِمَّنْ تَزَكَّى فَانْتَفَعُوا بِتَزْكِيَتِهِمْ، فَالْمَعْنَى: إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِالنِّذَارَةِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ فَأُولَئِكَ تَزَكَّوْا بِهَا وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أَنَّ قَبُولَهُمُ النِّذَارَةَ كَانَ لِفَائِدَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَعْبَأُوا بِنِذَارَتِهِ تَرَكُوا تَزْكِيَةَ أَنْفُسِهِمْ بِهَا فَكَانَ تَرْكُهُمْ ضُرًّا عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ تَكْمِيلٌ لِلتَّذْيِيلِ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَصِيرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute