للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَمَّا الْيَهُودُ فَلَمْ يَكُونُوا يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ وَلَكِنَّهُمْ يَقْبَلُونَ مَنْ يَتَهَوَّدُ كَمَا تَهَوَّدَ عَرَبُ الْيَمَنِ.

وَأَحْسَبُ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى نَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، أَوْ تَشْهِيرِ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، لَا يَخْلُو عَنْهَا عُلَمَاءُ مُوَحِّدُونَ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النُّصَّاحِ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودِ يَثْرِبَ يَعْرِضُ لِقُرَيْشٍ إِذَا مَرُّوا عَلَى يَثْرِبَ بِأَنَّهُمْ عَلَى ضَلَالٍ مِنَ الشِّرْكِ فَيَعْتَذِرُونَ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهِيَ تُسَاوِقُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَام:

١٥٥- ١٥٧] .

فَيَتَّضِحُ بِهَذَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ أَخْبَارِ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي شَأْنِ الرُّبُوبِيَّةِ وَفِي شَأْنِ الرِّسَالَةِ وَالتَّدَيُّنِ، وَأَنَّ مَا حُكِيَ فِيهَا هُوَ مِنْ ضَلَالَاتِهِمْ وَمُجَازَفَتِهِمْ.

وَالْقَسَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَكْثَرُهُ بِاللَّهِ، وَقَدْ يُقْسِمُونَ بِالْأَصْنَامِ وَبِآبَائِهِمْ وَعَمْرِهِمْ.

وَالْغَالِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولُوا: بِاللات وَالْعُزَّى، وَلِذَلِكَ

جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»

، أَيْ مَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ ذَلِكَ جَرْيَ الْكَلَامِ الْغَالِبِ وَذَلِكَ فِي صَدْرِ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ.

وَجَهْدُ الْيَمِينِ: أَبْلَغُهَا وَأَقْوَاهَا. وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَهْدِ وَهُوَ التَّعَبُ، يُقَالُ: بَلَغَ كَذَا مِنِّي الْجَهْدُ، أَيْ عَمِلْتُهُ حَتَّى بَلَغَ عَمَلُهُ مِنِّي تَعَبِي، كِنَايَةً عَنْ شِدَّةِ عَزْمِهِ فِي الْعَمَلِ. فَجَهْدُ الْأَيْمَانِ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ تَأْكِيدِهَا، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٥٣] ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَسُورَةِ النَّحْلِ وَسُورَةِ النُّورِ.

وَانْتَصَبَ جَهْدَ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِمَا كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا وَهُوَ أَيْمانِهِمْ إِذْ هُوَ جمع يَمِينٍ وَهُوَ الْحَلِفُ