وَقَدْ تَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ فِي قَسَمِهِمْ إِذْ قَالُوا: «لَئِنْ جَاءَنَا نَذِيرٌ لَنَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْهُمْ» وَأَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِهِ إِلَّا التَّفَصِّي مِنَ اللَّوْمِ.
وَجُمْلَةُ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ تَذْيِيلٌ أَوْ مَوْعِظَةٌ. ويَحِيقُ: ينزل بِهِ شَيْء مَكْرُوهٍ حَاقَ بِهِ، أَيْ نَزَلَ وَأَحَاطَ إِحَاطَةَ سُوءٍ، أَيْ لَا يَقَعُ أَثَرُهُ إِلَّا عَلَى أَهْلِهِ. وَفِيهِ حَذْفٌ مُضَافٌ تَقْدِيرُهُ: ضرّ الْمَكْر السيّء أَوْ سوء الْمَكْر السيّء كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ يَحِيقُ فَإِنْ كَانَ التَّعْرِيفُ فِي الْمَكْرُ لِلْجِنْسِ كَانَ الْمُرَادُ بِ «أَهْلِهِ» كُلَّ مَاكِرٍ. وَهَذَا هُوَ الْأَنْسَبُ بِمَوْقِعِ الْجُمْلَةِ وَمَحْمَلِهَا عَلَى التَّذْيِيلِ لِيَعُمَّ كُلَّ مَكْرٍ وَكُلَّ مَاكِرٍ، فَيَدْخُلَ فِيهِ الْمَاكِرُونَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونَ الْقَصْرُ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا مَبْنِيًّا عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالضُّرِّ الْقَلِيلِ الَّذِي يَحِيقُ بِالْمَمْكُورِ بِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلْمَاكِرِ فِي قَدَرِهِ مِنْ مُلَاقَاةِ جَزَائِهِ عَلَى مَكْرِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ النَّوَامِيسِ الَّتِي قَدَّرَهَا الْقَدَرُ لِنِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ لِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الضَّارَّةِ تُؤَوَّلُ إِلَى ارْتِفَاعِ ثِقَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَاللَّهُ بَنَى نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى تَعَاوُنِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ، فَإِذَا لَمْ يَأْمَنْ أَفْرَادُ الْإِنْسَانِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا تَنَكَّرَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَتَبَادَرُوا الْإِضْرَارَ وَالْإِهْلَاكَ لِيَفُوزَ كُلُّ وَاحِدٍ
بِكَيْدِ الْآخَرِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى فَسَادٍ كَبِيرٍ فِي الْعَالِمِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَلَا ضُرَّ عَبِيدِهِ إِلَّا حَيْثُ تَأْذَنُ شَرَائِعُهُ بِشَيْءٍ، وَلِهَذَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ: «وَمَا ظَالِمٌ إِلَّا سَيُبْلَى بِظَالِمٍ» . وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لِكُلِّ شَيْءٍ آفَةٌ مِنْ جِنْسِهِ ... حَتَّى الْحَدِيدُ سَطَا عَلَيْهِ الْمِبْرَدُ
وَكَمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ نَوَامِيسَ مَغْفُولٍ عَنْهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: ٢٠٥] .
وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ بِسَنَدِهِ عَنِ الزُّهْرِيُّ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَمْكُرْ وَلَا تُعِنْ مَاكِرًا فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ
، وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ «مَنْ حَفْرَ لِأَخِيهِ جُبًّا وَقَعَ فِيهِ مُنْكَبًّا» ، وَمِنْ كَلَامِ عَامَّةِ أَهْلِ تُونِسَ (يَا حَافِرَ حُفْرَةِ السَّوْءِ مَا تَحْفِرُ إِلَّا قِيَاسَكَ» .
وَإِذَا كَانَ تَعْرِيفُ الْمَكْرُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ كَانَ الْمَعْنَى: وَلَا يَحِيقُ هَذَا الْمَكْرُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، أَيِ الَّذِينَ جَاءَهُمُ النَّذِيرُ فَازْدَادُوا نُفُورًا، فَيَكُونُ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ مَوْقِعَ الْوَعِيدِ بِأَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْرَهُمْ وَيَحِيقُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute