يَعُمُّ الظُّلْمَ وَغَيْرَهُ. وَأُوثِرَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ بِظُلْمِهِمْ لِأَنَّهَا جَاءَتْ عَقِبَ تَشْنِيعِ ظُلْمٍ عَظِيمٍ مِنْ ظُلْمِهِمْ وَهُوَ ظُلْمُ بَنَاتِهِمُ الْمَوْءُودَاتِ وَإِلَّا أَنَّ هُنَالِكَ قَالَ: مَا تَرَكَ عَلَيْها [النَّحْل: ٦١] وَهُنَا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها وَهُوَ تَفَنُّنٌ تَبِعَهُ الْمَعَرِّيُّ فِي قَوْلِهِ:
وَإِنْ شِئْتَ فَازْعُمْ أَنَّ مَنْ فَوْقَ ظَهْرِهَا ... عبيدك وَاسْتشْهدَ إلهك يَشْهَدِ
وَالضَّمِيرُ لِلْأَرْضِ هُنَا وَهُنَاكَ فِي الْبَيْتِ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ مِنَ الْمَقَامِ. وَالظَّهْرُ: حَقِيقَتُهُ مَتْنُ الدَّابَّةِ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهَا، وَهُوَ مَا يَعْلُو الصُّلْبَ مِنَ الْجَسَدِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْبَطْنِ فَأُطْلِقَ عَلَى ظَهْرِ الْإِنْسَانِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ظَاهِرٍ لِأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْإِنْسَانِ صَدْرُهُ وَبَطْنُهُ. وَظَهْرُ الْأَرْضِ مُسْتَعَارٌ لِبَسْطِهَا الَّذِي يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ مَخْلُوقَاتُ الْأَرْضِ تَشْبِيهًا لِلْأَرْضِ بِالدَّابَّةِ الْمَرْكُوبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ. ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ فَصَارَ مِنَ الْحَقِيقَةِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ هُنَا: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً، وَقَدْ قَالَ هُنَالِكَ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النَّحْل: ٦١] ، فَمَا هُنَا إِيمَاءٌ إِلَى الْحِكْمَةِ فِي تَأْخِيرِهِمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.
وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا جَاءَ أَجْلُهُمْ أَخَذَهُمْ بِمَا كَسَبُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا، أَيْ عَلِيمًا فِي حَالَيِ التَّأْخِيرِ وَمَجِيءِ الْأَجَلِ، وَلِهَذَا فَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً دَلِيلُ جَوَابِ (إِذَا) وَلَيْسَ هُوَ جَوَابَهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ حَقِيقًا بِقَرْنِهِ بِفَاءِ التَّسَبُّبِ، وَأَمَّا مَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ فَهُوَ الْجَوَابُ وَهُوَ تهديد بِأَنَّهُم إِذَا جَاءَ أَجْلُهُمْ وَقَعَ بِهِمُ الْعَذَابُ دُونَ إِمْهَالٍ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً هُوَ أَيْضًا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ أَنْ يُقَالَ: مَاذَا جَنَتِ الدَّوَابُّ حَتَّى يَسْتَأْصِلَهَا اللَّهُ بِسَبَبِ مَا كَسَبَ النَّاسُ، وَكَيْفَ يَهْلِكُ كُلُّ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ وَفِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالصَّالِحُونَ، فَأُفِيدَ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِعَدْلِهِ. فَأَمَّا الدَّوَابُّ فَإِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِأَجْلِ الْإِنْسَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَة: ٢٩] ، فَإِهْلَاكُهَا قَدْ يَكُونُ إِنْذَارًا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يُقْلِعُونَ عَنْ إِجْرَامِهِمْ، وَأَمَّا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ فِي حِينِ إِهْلَاكِ الْكُفَّارِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ طَرِيقًا إِلَى النَّجَاةِ كَمَا نَجَّى هُودًا وَمَنْ مَعَهُ، وَلَعَلَّهُ إِنْ أَهْلَكَهُمْ أَنْ يُعَوِّضَ لَهُمْ حُسْنَ الدَّارِ كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute