عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [الْبَقَرَة:
١٤٤] دَالًّا عَلَى أَنَّهُ اجْتَهَدَ فَرَأَى أَنْ يَتَّبِعَ قِبْلَةَ الدِّينَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يَوَدُّ أَنْ يَأْمُرَهُ اللَّهُ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا غُيِّرَتِ الْقِبْلَةُ قَالَ السُّفَهَاءُ وَهُمُ الْيَهُودُ أَوِ الْمُنَافِقُونَ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَقِيلَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا اشْتَاقَ مُحَمَّدٌ إِلَى بَلَدِهِ وَعَنْ قَرِيبٍ يَرْجِعُ إِلَى دِينِكُمْ ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَنُسِبَ إِلَى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ، وَرَوَى الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى نَحْوَ الْكَعْبَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْمُعَلَّى وَفِي الْحَدِيثِ ضَعْفٌ.
وَقَوْلُهُ: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ جَوَابٌ قَاطِعٌ مَعْنَاهُ أَنَّ الْجِهَاتِ كُلَّهَا سَوَاءٌ فِي أَنَّهَا مَوَاقِعُ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُعَظَّمَةِ فَالْجِهَاتُ مِلْكٌ لِلَّهِ تَبَعًا لِلْأَشْيَاءِ الْوَاقِعَةِ فِيهَا الْمَمْلُوكَة لَهُ، وَلَيْسَت مُسْتَحِقَّةً لِلتَّوَجُّهِ وَالِاسْتِقْبَالِ اسْتِحْقَاقًا ذَاتِيًّا.
وَذِكْرُ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبِ مُرَادٌ بِهِ تَعْمِيمُ الْجِهَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [الْبَقَرَة: ١١٥] ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الْكِنَايَةَ عَنِ الْأَرْضِ كُلِّهَا لِأَنَّ اصْطِلَاحَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يُقَسِّمُونَ الْأَرْضَ إِلَى جِهَتَيْنِ شَرْقِيَّةٍ وَغَرْبِيَّةٍ بِحَسَبِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ وَمَغْرِبِهَا، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَيْسَ لِبَعْضِ الْجِهَاتِ اخْتِصَاصٌ بِقُرْبٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِهَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ أَمْرُهُ بِاسْتِقْبَالِ بَعْضِ الْجِهَاتِ لِحِكْمَةٍ يُرِيدُهَا كَالتَّيَمُّنِ أَوِ التَّذَكُّرِ فَلَا بِدْعَ فِي التَّوَلِّي لِجِهَةٍ دُونَ أُخْرَى حَسَبَ مَا يَأْمُرُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، إِشَارَةٌ إِلَى وَجْهِ صِحَّةِ التَّوْلِيَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَقَوْلُهُ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِشَارَةٌ إِلَى وَجْهِ تَرْجِيحِ التَّوْلِيَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ عَلَى التَّوْلِيَةِ إِلَى غَيْرِهَا لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الْهُدَى دُونَ قِبْلَةِ الْيَهُودِ إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّعْرِيضَ جِيءَ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكَلَامِ الْمُنْصِفِ مِنْ حَيْثُ مَا فِي قَوْلِهِ مَنْ يَشاءُ مِنَ الْإِجْمَالِ الَّذِي يُبَيِّنُهُ الْمَقَامُ فَإِنَّ الْمَهْدِيَّ مِنْ فَرِيقَيْنِ كَانَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ هُوَ الْفَرِيقُ الَّذِي أَمَرَهُ مَنْ بِيَدِهِ الْهُدَى بِالْعُدُولِ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي شَارَكَهُ فِيهَا الْفَرِيقُ الْآخَرُ إِلَى حَالَةِ اخْتُصَّ هُوَ
بِهَا، فَهَذِهِ الْآيَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ أَقْوَى مِنْ آيَةِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: ٢٤] .
وَقَدْ سَلَكَ فِي هَذَا الْجَوَابِ لَهُمْ طَرِيقَ الْإِعْرَاضِ والتبكيت لِأَن إِنْكَار هم كَانَ عَنْ عِنَادٍ لَا عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ فَأُجِيبُوا بِمَا لَا يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْحيرَة وَلم تبين لَهُمْ حِكْمَةُ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَلَا أَحَقِّيَّةُ الْكَعْبَةِ بِالِاسْتِقْبَالِ وَذَلِكَ مَا يَعْلَمُهُ الْمُؤْمِنُونَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute