مَعْنَاهُ: أَوْدَعْنَا لَهُمْ فِي
أَضْرَاعِهَا أَلْبَانًا يَشْرَبُونَهَا وَفِي أَبْدَانِهَا أَوْبَارًا وَأَشْعَارًا يَنْتَفِعُونَ بِهَا.
وَقَوْلُهُ: لَهُمْ هُوَ مَحَلُّ الِامْتِنَانِ، أَيْ لِأَجْلِهِمْ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْمَنَافِعِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ خَلَقَهَا الله لأجل انْتِفَاع الْإِنْسَانِ بِهَا تَكْرِمَةً لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٩] .
وَاسْتُعِيرَ عَمَلُ الْأَيْدِي الَّذِي هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي الصُّنْعِ إِلَى إِيجَادِ أُصُولِ الْأَجْنَاسِ بِدُونِ سَابِقِ مَنْشَأٍ مِنْ تَوَالُدٍ أَوْ نَحْوِهِ فَأُسْنِدَ ذَلِكَ إِلَى أَيْدِي اللَّهِ تَعَالَى لِظُهُورِ أَنَّ تِلْكَ الْأُصُولَ لَمْ تَتَوَلَّدْ عَنْ سَبَبٍ كَقَوْلِهِ: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: ٤٧] ، فَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا عَمِلَتْ ابْتِدَائِيَّةٌ لِأَنَّ الْأَنْعَامَ الَّتِي لَهُمْ مُتَوَلَّدَةٌ مِنْ أُصُولٍ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى أُصُولِهَا الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ كَمَا خَلَقَ آدَمَ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْخَلْقِ بِأَنَّهُ بِيَدِ اللَّهِ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً لِتَقْرِيبِ شَأْنِ الْخَلْقِ الْخَفِيِّ الْبَدِيعِ مِثْلَ قَوْلِهِ: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥] . وَقَرِينَةُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ مَا تَقَرِّرَ مِنْ أَنَّ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَاتِ، فَذَلِكَ مِنَ الْعَقَائِدِ الْقَطْعِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا الَّذِينَ رَأَوُا الْإِمْسَاكَ عَنْ تَأْوِيلِ أَمْثَالِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَاتِ فَسَمَّوْهَا الْمُتَشَابِهَ وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّنَا لَمْ نَصِلْ إِلَى حَقِيقَةِ مَا نُعَبِّرُ عَنْهُ بِالْكُنْهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَأَوَّلُوهَا بِطَرِيقَةِ الْمَجَازِ فَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ تَأْوِيلَهَا تَقْرِيبٌ وَإِسَاغَةٌ لِغُصَصِ الْعِبَارَةِ. فَأَمَّا الَّذِينَ أَثْبَتُوا وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِظَوَاهِرِهَا فَبَاعِثُهُمْ فَرْطُ الْخَشْيَةِ، وَكَانَ لِلسَّلَفِ فِي ذَلِكَ عُذْرٌ لَا يَسَعُ أَهْلَ الْعُصُورِ الَّتِي فَشَا فِيهَا الْإِلْحَادُ وَالْكُفْرُ فَهُمْ عَنْ إِقْنَاعِ السَّائِلِينَ بِمَعْزِلٍ، وَقَلَمُ التَّطْوِيلِ فِي ذَلِكَ مَغْزِلٌ.
وَالْأَنْعَامُ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالْمَعْزُ. وَفَرَّعَ عَلَى خَلْقِهَا لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ لَهَا مَالِكُونَ قَادِرُونَ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا يَشَاءُونَ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُوَ أَنْوَاعُ التَّصَرُّفِ. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ ضَبُعٍ الْفَزَارِيُّ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُعَمَّرِينَ:
أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا ... أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إِنْ نَفَرَا
وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ فِي أَثْنَاءِ التَّذْكِيرِ.
وَتَقْدِيمُ لَها عَلَى مالِكُونَ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقَهُ لِزِيَادَةِ اسْتِحْضَارِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute