للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَخْتَارُهُ الْعَاقِلُ، فَكَانَ مِنْ جَزَائِهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُطْعَمُونَ طَعَامًا مُؤْلِمًا وَيُسْقَوْنَ شَرَابًا قَذِرًا بِدُونِ اخْتِيَارٍ كَمَا تَلَقَّوْا دِينَ آبَائِهِمْ تَقْلِيدًا وَاعْتِبَاطًا.

فَمَوْقِعُ (إِنَّ) مَوْقِعُ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا مَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ، وَهِيَ لِذَلِكَ مُفِيدَةٌ رَبْطَ الْجُمْلَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا كَمَا تَرْبُطُهَا الْفَاءُ وَلَامُ التَّعْلِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ.

وَالْمُرَادُ: الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: ٢٢] .

وَفِي قَوْلِهِ: أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ ضَلَالَهُمْ لَا يَخْفَى عَنِ النَّاظِرِ فِيهِ لَوْ تُرِكُوا عَلَى الْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَلَمْ يُغَشُّوهَا بِغِشَاوَةِ الْعِنَادِ.

وَالْفَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى جُمْلَةِ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ فَاءُ الْعَطْفِ لِلتَّفْرِيعِ وَالتَّسَبُّبِ، أَيْ مُتَفَرِّعٌ على إلفائهم آبَاءَهُم ضَالِّينَ أَنِ اقْتَفَوْا آثَارَهُمْ تَقْلِيدًا بِلَا تَأَمُّلٍ، وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ.

وَالْآثَارُ: مَا تَتْرُكُهُ خُطَى الماشين من موطىء الْأَقْدَامِ فَيَعْلَمُ السَّائِرُ بُعْدَهُمْ أَنَّ مَوَاقِعَهَا مَسْلُوكَةٌ مُوَصِّلَةٌ إِلَى مَعْمُورٍ، فَمَعْنَى عَلى الِاسْتِعْلَاءُ التَّقْرِيبِيُّ، وَهُوَ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ لِأَنَّهُمْ يَسِيرُونَ مَعَهَا وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا مُعْتَلِينَ عَلَيْهَا.

ويُهْرَعُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ مُضَارِعُ: أَهْرَعَهُ، إِذَا جَعَلَهُ هَارِعَا، أَيْ حَمَلَهُ عَلَى الْهَرَعِ وَهُوَ الْإِسْرَاعُ الْمُفْرِطُ فِي السَّيْرِ، عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْمُتَابَعَةِ دُونَ تَأَمُّلٍ، فَشَبَّهَ قَبُولَ الِاعْتِقَادِ بِدُونِ تَأَمُّلٍ بِمُتَابَعَةِ السَّائِرِ مُتَابَعَةً سَرِيعَةً لِقَصْدِ الِالْتِحَاقِ بِهِ.

وَأُسْنِدَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَن ذَلِك ناشىء عَنْ تَلْقِينِ زُعَمَائِهِمْ وَتَعَالِيمِ الْمُضَلِّلِينَ، فَكَأَنَّهُمْ مَدْفُوعُونَ إِلَى الْهَرَعِ فِي آثَارِ آبَائِهِمْ فَيَحْصُلُ مِنْ قَوْلِهِ: يُهْرَعُونَ تَشْبِيهُ حَالِ الْكَفَرَةِ بِحَالِ مَنْ يُزْجَى وَيُدْفَعُ إِلَى السَّيْرِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يسَار بِهِ.