وَذَكَرَ ابْنُ خَلْدُونَ: أَنَّ بَعْضَهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ نُوحًا هُوَ (أَفْرِيدُونْ) مَلِكُ بِلَادِ الْفُرْسِ، وَبَعْضَهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ نُوحًا هُوَ (أُوشْهَنْكُ) مَلِكُ الْفُرْسِ الَّذِي كَانَ بَعْدَ (كُيُومَرْثَ) بِمِائَتَيْ سَنَةٍ وَهُوَ يُوَافِقُ أَنَّ نُوحًا كَانَ بَعْدَ آدَمَ وَهُوَ كُيُومَرْثُ بِمِائَتَيْ سَنَةٍ حَسَبَ كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ. عَلَى أَنَّ كُيُومَرْثَ يُقَالُ: إِنَّهُ آدَمَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَمُتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ لَمْ يَحُمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَوْلَهُ فِيمَا
اطَّلَعْتُ، وَالْوَجْهُ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِ بِفِعْلِ تَرَكْنا بِتَضْمِينِ هَذَا الْفِعْلِ مَعْنَى (أَنْعَمْنَا) فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعَدَّى هَذَا الْفِعْلُ بِاللَّامِ، فَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى أَنْعَمْنَا أَفَادَ بِمَادَّتِهِ مَعْنَى الْإِبْقَاءِ لَهُ، أَيْ إِعْطَاءِ شَيءٍ مِنَ الْفَضَائِلِ الْمُدَّخَرَةِ الَّتِي يُشْبِهُ إِعْطَاؤُهَا تَرْكَ أَحَدٍ مَتَاعًا نَفِيسًا لِمَنْ يُخَلِّيهِ هُوَ لَهُ وَيَخْلُفُهُ فِيهِ. وَأَفَادَ بِتَعْلِيقِ حَرْفِ (عَلَى) بِهِ أَنَّ هَذَا التَّرْكَ مِنْ قَبِيلِ الْإِنْعَامِ وَالتَّفْضِيلِ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ التَّضْمِينِ أَنْ يُفِيدَ الْمُضَمَّنُ مُفَادَ كَلِمَتَيْنِ فَهُوَ مِنْ أَلْطَفِ الْإِيجَازِ. ثُمَّ إِنَّ مَفْعُولَ تَرَكْنا لَمَّا كَانَ مَحْذُوفًا وَكَانَ فِعْلُ (أَنْعَمْنَا) الَّذِي ضُمِّنَهُ فِعْلُ تَرَكْنا مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى مُتَعَلِّقِ مَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَانَ مَحْذُوفًا أَيْضًا مَعَ عَامِلِهِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ: وَتَركنَا لَهُ ثَنَاء وَأَنْعَمْنَا عَلَيْهِ، فَحَصَلَ فِي قَوْلِهِ: تَرَكْنا عَلَيْهِ حَذْفُ خَمْسِ كَلِمَاتٍ وَهُوَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ.
وَلِذَلِكَ قَدَّرَ جُمْهُورُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَتَرَكْنا ثَنَاء حَسَنًا عَلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ إِنْشَاءُ ثَنَاءِ اللَّهِ عَلَى نُوحٍ وَتَحِيَّةٌ لَهُ وَمَعْنَاهُ لَازِمُ التَّحِيَّةِ وَهُوَ الرِّضَى وَالتَّقْرِيبُ، وَهُوَ نِعْمَةٌ سَادِسَةٌ. وَتَنْوِينُ سَلامٌ لِلتَّعْظِيمِ وَلِذَلِكَ شَاعَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّهَا كَالْمَوْصُوفِ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ: الْأُمَمُ وَالْقُرُونُ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ دَوَامِ السَّلَامِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
[مَرْيَم: ١٥] فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَقَوْلِهِ: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ [الصافات: ١٣٠] سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ [الصافات:
١٠٩] .
وَفِي الْعالَمِينَ حَالٌ فَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ سَلامٌ.
وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute