يَسْعَى مَعَ أَبِيهِ، أَيْ بَلَغَ سِنَّ مَنْ يَمْشِي مَعَ إِبْرَاهِيم فِي شؤونه.
فَقَوْلُهُ: مَعَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّعْيِ وَالضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي بَلَغَ لِلْغُلَامِ، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَعَهُ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ. والسَّعْيَ مَفْعُولُ بَلَغَ وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ مَنَعَ تَقَدُّمَ مَعْمُولِ الْمَصْدَرِ عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ الظُّرُوفَ يُتَوَسَّعُ فِيهَا مَا لَا يُتَوَسَّعُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَعْمُولَاتِ.
وَكَانَ عُمْرُ إِسْمَاعِيلَ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ وَحِينَئِذٍ حَدَّثَ إِبْرَاهِيمُ ابْنَهُ بِمَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ وَكَانَ أول مَا بدىء بِهِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ وَلَكِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ يُوحَ بِهَا إِلَيْهِ إِلَّا فِي الْيَقَظَةِ مَعَ رُؤْيَةِ جِبْرِيلَ دُونَ رُؤْيَا الْمَنَامِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الرُّؤْيَا وَحْيًا لَهُ فِي غَيْرِ التَّشْرِيعِ مِثْلَ الْكَشْفِ عَلَى مَا يَقَعُ وَمَا أُعِدَّ لَهُ وَبَعْضِ مَا يَحِلُّ بِأُمَّتِهِ أَوْ بِأَصْحَابِهِ، فَقَدْ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ فَلَمْ يُهَاجِرْ حَتَّى أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرَأَى بَقَرًا تُذْبَحُ فَكَانَ تَأْوِيلُ رُؤْيَاهُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَقَدْ يُرَجَّحُ قَوْلُ الْقَائِلِينَ مِنَ السَّلَفِ بِأَنَّ الْإِسْرَاءَ برَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقَظَةً وَبِالْجَسَدِ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمَنَامِ وَبِالرُّوحِ خَاصَّةً، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الصَّلَاةَ فِي لَيْلَتِهِ وَالصَّلَاةُ ثَانِي أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ حَقِيقَةٌ بِأَنْ تُفْرَضَ فِي أَكْمَلِ أَحْوَال الْوَحْي للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَالُ الْيَقَظَةِ فَافْهَمْ.
وَأَمْرُ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ أَمْرُ ابْتِلَاءٍ.
وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ التَّشْرِيعَ إِذْ لَوْ كَانَ تَشْرِيعًا لَمَا نُسِخَ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفِيتُ
الْحِكْمَةَ مِنَ التَّشْرِيعِ بِخِلَافِ أَمْرِ الِابْتِلَاءِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ إِظْهَارُ عَزْمِهِ وَإِثْبَاتُ عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ فَإِنَّ الْوَلَدَ عَزِيزٌ عَلَى نَفْسِ الْوَالِدِ، وَالْوَلَدُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ أَمَلُ الْوَالِدِ فِي مُسْتَقْبَلِهِ أَشَدُّ عِزَّةً عَلَى نَفْسِهِ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ سَأَلَ وَلَدًا لِيَرِثَهُ نَسْلُهَ وَلَا يَرِثَهُ مَوَالِيهِ، فَبَعْدَ أَنْ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ بِإِجَابَةِ سُؤْلِهِ وَتَرَعْرُعِ وَلَدِهِ أَمَرَهُ بِأَنْ يَذْبَحَهُ فَيَنْعَدِمَ نَسْلُهُ وَيَخِيبَ أَمَلُهُ وَيَزُولَ أُنْسُهُ وَيَتَوَلَّى بِيَدِهِ إِعْدَامَ أَحَبِّ النُّفُوسِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَعْظَمُ الِابْتِلَاءِ. فَقَابَلَ أَمْرَ رَبِّهِ بِالِامْتِثَالِ وَحَصَلَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ مِنَ ابْتِلَائِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات: ١٠٦] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute