إِذْ هُمْ مُسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَلَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ صَارَتْ صِفَةُ الصَّلَاةِ مُنَافِيَةً لِتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِمْ لِأَنَّهَا اسْتِدْبَارٌ لِمَا يَجِبُ اسْتِقْبَالُهُ فَلَمْ تبْق لَهُم سمة لِلتَّأْوِيلِ فَظَهَرَ مَنْ دَامَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَعْرَضَ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الصَّلَاةِ.
وَجَعْلُ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ وَمَنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ عِلَّةَ هَذَيْنِ التَّشْرِيعَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ يَحْصُلَ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ مِنَ التَّشْرِيعِ كَمَا يَقْتَضِيهِ لَامُ التَّعْلِيلِ وَتَقْدِيرُ أَنْ بَعْدَ اللَّامِ وَأَنْ حَرْفُ اسْتِقْبَالٍ مَعَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَهُوَ ذَاتِيٌّ لَهُ لَا يَحْدُثُ وَلَا يَتَجَدَّدُ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ هَنَا عَلَمُ حُصُولِ ذَلِكَ وَهُوَ تَعَلُّقُ عِلْمِهِ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ الَّذِي عُلِمَ فِي الْأَزَلِ أَنَّهُ سَيَقَعُ فَهَذَا تَعَلُّقٌ خَاصٌّ وَهُوَ حَادِثٌ لِأَنَّهُ كَالتَّعَلُّقِ التَّنْجِيزِيِّ لِلْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَإِنْ أَغْفَلَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَدَّهُ فِي تَعَلُّقَاتِ الْعِلْمِ (١) .
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُ: لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ كِنَايَةً عَنْ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ الرَّمْزِيَّةِ فَيَذْكُرُ عِلْمَهُ وَهُوَ يُرِيدُ عِلْمَ النَّاسِ كَمَا قَالَ إِيَاسُ بْنُ قُبَيْصَةَ الطَّائِيُّ:
وَأَقْدَمْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جُبَّاؤُهَا مِنْ شُجَاعِهَا
أَرَادَ لِيَظْهَرَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا فَأَعْلَمُهُ أَنَا وَيَعْلَمُهُ النَّاسُ فَجَاءَ الْقُرْآنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ كِنَايَةً عَنِ الْجَزَاءِ لِلْمُتَّبِعِ وَالْمُنْقَلِبِ كُلٌّ بِمَا يُنَاسِبُهُ وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (نَعْلَمَ) مَجَازًا عَن التحيز لنظهر لِلنَّاسِ بِقَرِينَةِ كَلِمَةِ (مَنْ) الْمُسَمَّاةُ بِمَنِ الْفَصْلِيَّةِ كَمَا سَمَّاهَا ابْنُ مَالِكٍ وَابْنُ هِشَامٍ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ فُرُوعِ مَعَانِي مَنْ الِابْتِدَائِيَّةِ كَمَا اسْتَظْهَرَهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» ، وَهَذَا لَا يُرِيبُكَ إِشْكَالٌ يَذْكُرُونَهُ، كَيْفَ يَكُونُ الْجَعْلُ الْحَادِثُ عِلَّةً لِحُصُولِ الْعِلْمِ الْقَدِيم إِذْ تبين لَكَ أَنَّهُ رَاجِعٌ لِمَعْنًى كِنَائِيٍّ.
وَالِانْقِلَابُ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، يُقَالُ انْقَلَبَ إِلَى الدَّارِ، وَقَوْلُهُ: عَلى عَقِبَيْهِ
(١) بعد أَن كتبت هَذَا بسنين وجدت فِي الرسَالَة الخاقانية للمحقق عبد الْحَكِيم السلكوتي فِي تَحْقِيق الْمذَاهب فِي علم الله تَعَالَى قَوْله: «وَقيل إِن علمه تَعَالَى لَهُ تعلقات أزلية بِكُل مَا يصلح أَن يعلم» ، وتعلقات متجددة بالمتجددات من حَيْثُ تجددها ووقوعها فِي أزمنة متغيرة والتغيير فِي التعلقات والإضافات لَا يضر بِكَمَالِهِ، لِأَن ذَلِك التجدد لَيْسَ بِنُقْصَان فِي ذَاته بل لِأَن كَمَاله التَّام يَقْتَضِي أَن [.....]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute