للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(يَدَعُ) أَخَصُّ: إِمَّا لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ مَعَ الِاعْتِنَاءِ بِعَدَمِ تَرْكِهِ كَمَا قَالَ سَعْدُ الله، وَإِمَّا لِأَن فِعْلُ يَدَعُ يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ قَبْلَ الْعِلْمِ، وَفِعْلُ (يَذَرُ) يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ كَمَا حَكَاهُ سَعْدُ اللَّهِ عَن بعض الْأَئِمَّة عَازِيًا إِيَّاهُ لِلْفَخْرِ.

وَعِنْدِي: أَنَّ مَنْعَ التَّرَادُفِ هُوَ الْوَجْهُ لَكِنْ لَا كَمَا قَالَ سَعْدُ اللَّهِ وَلَا كَمَا نُقِلَ عَنِ الْفَخْرِ بَلْ لِأَنَّ فِعْلَ (يَدَعُ) قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ لَا سَنَدَ لَهَا خِلَافًا لِفِعْلِ (يَذَرُ) . وَلَا شَكَّ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ (يَذَرُ) يَدُلُّ عَلَى تَرْكٍ مَعَ إِعْرَاضٍ عَنِ الْمَتْرُوكِ بِخِلَافِ (يَدَعُ) فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَرْكًا مُؤَقَّتًا وَأَشَارَ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا كَلَامُ الرَّاغِبِ فِيهِمَا. وَهُنَالِكَ عِدَّةُ أَجْوِبَةٍ أُخْرَى، هِيَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا أَحْرَى.

وَمَعْنَى فَكَذَّبُوهُ أَنَّهُمْ لَمْ يُطِيعُوهُ تَمَلُّقًا لِمُلُوكِهِمُ الَّذِينَ أَجَابُوا رَغْبَةَ نِسَائِهِمُ

الْمُشْرِكَاتِ لِإِقَامَةِ هَيَاكِلَ لِلْأَصْنَامِ فَإِنَّ (إِيزَابِلْ) ابْنَةَ مَلِكِ الصَّيْدَوَنِيِّينَ زَوْجَةَ (أَخَابْ) مَلِكِ إِسْرَائِيلَ لَمَّا بَلَغَهَا مَا صَنَعَ إلْيَاسُ بِسَدَنَةِ بَعْلٍ ثَأْرًا لِمَنْ قَتَلَتْهُ (إِيزَابِلْ) مِنْ صَالِحِي إِسْرَائِيلَ أَرْسَلَتْ إِلَى إِلْيَاسَ تَتَوَعَّدُهُ بِالْقَتْلِ فَخَرَجَ إِلَى مَوْضِعٍ اسْمُهُ (بِئْرُ سَبْعٍ) ثُمَّ سَاحَ فِي الْأَرْضِ وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَعْهَدَ إِلَى صَاحِبِهِ (الْيَسَعَ) بِالنُّبُوءَةِ مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ مَكَانَهُ.

وَفِي كِتَابِ «إِيلِيَاءَ» مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ أَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ فِي مَرْكَبَةٍ يَجُرُّهَا فُرْسَانٌ، وَأَنَّ (الْيَسَعَ) شَاهَدَهُ صَاعِدًا فِيهَا وَلِذَلِكَ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ: إِن إلْيَاس هود إِدْرِيسُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيئًا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مَرْيَم: ٥٦، ٥٧] ، وَقِيلَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ: إِن إِدْرِيسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عِوَضَ وَإِنَّ إِلْياسَ وَيَقْرَأُ (سَلَامٌ عَلَى إِدْرَاسِينَ) عَلَى أَنَّهُ لُغَةٌ فِي إِدْرِيسَ. وَلَا يَقْتَضِي مَا فِي كُتُبِ الْيَهُودِ مِنْ رَفْعِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ إِدْرِيسَ لِأَنَّ الرَّفْعَ إِذَا صَحَّ قَدْ يَتَكَرَّرُ وَقَدْ رَفَعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَمَعْنَى فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أَنَّ اللَّهَ يُحْضِرُهُمْ لِلْعِقَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ فِي هَذِه السُّورَة الصافات [٥٧] .

وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ عِبَادُ اللَّهِ الْمُخْلَصُونَ وَهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا إِلْيَاسَ وَأَعَانُوهُ عَلَى قَتْلِ سَدَنَةِ (بَعْلٍ) . وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فِيمَا