للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثُمَّ لَمَّا كَانَ تَفْسِيرُهُمْ لِذَلِكَ مَعْلُومًا مِنْ مُتَكَرَّرِ أَقْوَالِهِمْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْمُجِيبِ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ. وَإِنَّمَا أُرِيدَ مِنِ اسْتِفْسَارِهِمْ صُورَةُ الِاسْتِفْسَارِ مُضَايَقَةً لَهُمْ وَلِيَنْتَقِلَ مِنْ مَقَامِ الِاسْتِفْسَارِ إِلَى مَقَامِ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّلِيلِ عَلَى دَعْوَاهُمْ، فَذَلِكَ الِانْتِقَالُ ابْتِدَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُمْ شاهِدُونَ [الصافات: ١٥٠] وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ شَهِدَ إِذَا حَضَرَ وَرَأَى، ثُمَّ قَوْلِهِ: أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَرَدَّدَهُمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونُوا قَدِ اسْتَنَدُوا إِلَى دَلِيلِ الْمُشَاهَدَةِ أَوْ إِلَى دَلِيلٍ غَيْرِهِ وَهُوَ هُنَا مُتَعَيَّنٌ لِأَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَقْطُوعًا بِصِدْقِهِ وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِهَا غَيْرُ ذَلِكَ، فَدَلِيلُ الْمُشَاهَدَةِ مُنْتَفٍ بِالضَّرُورَةِ، وَدَلِيلُ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ مُنْتَفٍ أَيْضًا إِذْ لَا دَلِيلَ مِنَ الْعَقْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ وَلَا عَلَى أَنَّهُمْ ذُكُورٌ.

فَلَمَّا عُلِمَ أَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ غَيْرُ مَفْرُوضٍ هُنَا انْحَصَرَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ فِي دَلِيلِ السَّمْعِ وَهُوَ الْخَبَرُ الصَّادِقُ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْعِلْمِ لِلْخَلْقِ مُنْحَصِرَةٌ فِي هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الثَّلَاثَةِ: أُشِيرَ إِلَى دَلِيلِ الْحِسِّ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ شاهِدُونَ، وَإِلَى دَلِيلَيِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ بِقَوْلِهِ: أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

وَهُوَ دَلِيلُ السَّمْعِ. فَأَسْقَطَ بِهَذَا التَّفْرِيعِ احْتِمَالَ دَلِيلِ الْعَقْلِ لِأَنَّ انْتِفَاءَهُ مَقْطُوعٌ إِذْ لَا طَرِيقَ إِلَيْهِ وَانْحَصَرَ دَلِيلُ السَّمْعِ فِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا عَلِمْتَ إِذْ لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِ اللَّهِ غَيْرُهُ.

ثُمَّ خُوطِبُوا بِأَمْرِ التَّعْجِيزِ بِأَنْ يَأْتُوا بِكِتَاب أَي بِكِتَابٍ جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا عَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ اسْتِحَالَةَ مَجِيءِ رَسُولٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاسْتِحَالَةَ أَنْ يُكَلِّمَ اللَّهُ أَحَدًا مَنْ خَلْقِهِ، فَانْحَصَرَ الدَّلِيلُ الْمَفْرُوضُ مِنْ جَانِبِ السَّمْعِ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ فِي أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِمْ: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: ٩٣] ، وَلَنْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَأْتُوا بِكِتَابٍ.

فَذِكْرُ لَفْظِ «كِتَابِكُمْ» إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَأْتُوا بِهِ، أَيِ السُّلْطَانِ الْمُبِينِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كِتَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَإِضَافَةُ كِتَابٍ إِلَى ضَمِيرِهِمْ مِنْ إِضَافَةِ مَا فِيهِ مَعْنَى الْمَصْدَرِ إِلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِ