تَجْوِيزَ أَصْلِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ وَإِنَّمَا مُرَادُهُمُ اسْتِقْصَاءُ الِاسْتِبْعَادِ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَصْلَ الرِّسَالَةِ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ص: ٤] وَغَيْرُهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَهَذَا الْأَصْلُ الثَّانِي مِنْ أُصُولِ كُفْرِهِمُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: ٥] وَهُوَ أَصْلُ إِنْكَارِ بَعْثَةِ رَسُولٍ مِنْهُمْ.
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا أَيْ لَيْسَ قَصْدُهُمُ الطَّعْنَ فِي اخْتِصَاصِكَ بِالرِّسَالَةِ وَلَكِنَّهُمْ شَاكُّونَ فِي أَصْلِ إِنْزَالِهِ، فَتَكُونُ بَلْ إِضْرَابًا إِبْطَالِيَّا تَكْذِيبًا لِمَا يَظْهَرُ مِنْ إِنْكَارِهِمْ إِنْزَالَ الذِّكْرِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَيْ إِنَّمَا قَصْدُهُمُ الشَّكُ فِي أَنَّ اللَّهَ يُوحِي إِلَى أَحَدٍ بِالرِّسَالَةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي شَكًّا مِنْ وُقُوعِهِ. وَالشَّكُّ يُطْلَقُ عَلَى الْيَقِينِ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَيَكُونُ كَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: ٣٣] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالًا مِنْ خَبَرٍ عَنْهُمْ إِلَى خَبَرٍ آخَرَ فَيَكُونُ اسْتِئْنَافًا وَتَكُونُ بَلْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ، وَالْمَعْنَى: وَهُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي، أَيْ فِي شَكٍّ مِنْ كُنْهِ الْقُرْآنِ، فَمَرَّةً يَقُولُونَ: افْتَرَاهُ، وَمَرَّةً يَقُولُونَ: شِعْرٌ، وَمَرَّةً: سِحْرٌ، وَمَرَّةً: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَمَرَّةً: قَوْلُ كَاهِنٍ. فَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ حَقِيقَتُهُ أَيِ التَّرَدُّدُ فِي الْعِلْمِ. وَإِضَافَةُ الذِّكْرِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَلِتَحْقِيقِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالذِّكْرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ عَيْنُ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالظَّاهِرِ دُونَ الضَّمِيرِ تَوَصُّلًا إِلَى التَّنْوِيهِ بِهِ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، جُعِلَتْ مُلَابَسَةُ الشَّكِّ إِيَّاهُمْ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ الْمُحِيطِ بِمَحْوَيْهِ فِي أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ جَانِبٌ مِنْ جَوَانِبِهِ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذِكْرِي ابْتِدَائِيَّةٌ لِكَوْنِ الشَّكِّ صِفَةً لَهُمْ، أَيْ نَشَأَ لَهُمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute