للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَيَقُولُونَ وَلَّى عَنْ كَذَا وَيُنْزِلُونَهُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَفْعُولَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَيُقَدِّرُونَ وَلَّى وَجْهَهُ إِلَى جِهَةِ كَذَا مُنْصَرِفًا عَنْ كَذَا أَيِ الَّذِي كَانَ يَلِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَبِاخْتِلَافِ هَاتِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ تَخْتَلِفُ الْمَعَانِي كَمَا تَقَدَّمَ.

فَالْقِبْلَةُ هُنَا اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُهُ الْمُصَلِّي وَهُوَ إِمَّا مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الْهَيْئَةِ وَإِمَّا مِنَ اسْمِ الْمَفْعُولِ (١) كَمَا تَقَدَّمَ.

وَالْمَسْجِد الْحَرَامِ الْمَسْجِدُ الْمَعْهُودُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَالْحَرَامُ الْمَجْعُولُ وَصْفًا لِلْمَسْجِدِ هُوَ الْمَمْنُوعُ. أَيِ الْمَمْنُوعُ مَنْعَ تَعْظِيمٍ وَحُرْمَةٍ فَإِنَّ مَادَّةَ التَّحْرِيمِ تُؤْذِنُ بِتَجَنُّبِ الشَّيْءِ فَيُفْهَمُ التَّجَنُّبُ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ. وَقَدِ اشْتَهَرَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَصْفُ مَكَّةَ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ أَيِ الْمَمْنُوع عَن الْجَبَابِرَةِ وَالظَّلَمَةِ وَالْمُعْتَدِينَ وَوُصِفَ بِالْمُحَرَّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إِبْرَاهِيم: ٣٧] ، أَيِ الْمُعَظَّمِ الْمُحْتَرَمِ وَسُمِّيَ الْحَرَمَ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً [الْقَصَص: ٥٧] فَوَصْفُ الْكَعْبَةِ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ وَحَرَمِ مَكَّةَ بِالْحَرَمِ أَوْصَافٌ قَدِيمَةٌ شَائِعَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ فَأَمَّا اسْمُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهُوَ مِنَ الْأَلْقَابِ الْقُرْآنِيَّةِ جُعِلَ عَلَمًا عَلَى حَرِيمِ الْكَعْبَةِ الْمُحِيطِ بِهَا وَهُوَ مَحَلُّ الطَّوَافِ وَالِاعْتِكَافِ وَلَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ بِالْمَسْجِدِ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ صَلَاةٌ ذَاتُ سُجُودٍ وَالْمَسْجِدُ مَكَانُ السُّجُودِ فَاسْمُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْمِسَاحَةِ الْمَحْصُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْكَعْبَةِ وَلَهَا أَبْوَابٌ مِنْهَا بَابُ الصَّفَا وَبَابُ بَنِي شَيْبَةَ وَلَمَّا أُطْلِقَ هَذَا الْعَلَمُ عَلَى مَا أَحَاطَ بِالْكَعْبَةِ لَمْ يَتَرَدَّدِ النَّاسُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ فَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَبْلَ

الْهِجْرَةِ وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُنَا الْكَعْبَةُ لِاسْتِفَاضَةِ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ بِأَنَّ الْقِبْلَةَ صُرِفَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ وَأَنَّهُ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ وَقَالَ هَذِهِ الْقِبْلَةُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ «وَذَكَرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَيْتُ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ عَنِ الْبَيْتِ (٢) بِمَا يُجَاوِرُهُ أَوْ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْبَيْتُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْحَرَمِ وَالْحَرَمُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. قَالَ الْفَخْرُ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَقُولُ لَا يُعْرَفُ هَذَا عَنْ مَالِكٍ فِي كُتُبِ مَذْهَبِهِ.

وَانْتَصَبَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِوَلِّ وَلَيْسَ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ.


(١) وَهُوَ الَّذِي اسْتَظْهرهُ المُصَنّف. انْظُر شرح الْآيَة مَا قبل السَّابِقَة.
(٢) فِي «أَحْكَام الْقُرْآن» لِابْنِ الْعَرَبِيّ (الشَّيْء) (١/ ٤٣) ، دَار الْمعرفَة.