أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَرَّرُوا هَذَا الْمَعْنَى فَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَبِهَذَا كَانَ يُدْعَى بِذَلِكَ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ قَالُوا: يَا خَلِيفَةَ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ فَطَالَ وَرَأَوْا أَنَّهُ سَيَطُولُ أَكْثَرَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِذَا وَلِيَ خَلِيفَةٌ بَعْدَ عُمَرَ فَدَعَوْا عُمَرَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَصُرَ هَذَا عَلَى الْخُلَفَاءِ، وَمَا يَجِيءُ فِي الشِّعْرِ مِنْ دُعَاءِ أَحَدِ الْخُلَفَاءِ خَلِيفَةَ اللَّهِ فَذَلِكَ تَجَوُّزٌ كَمَا قَالَ ابْنُ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ:
خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي بَرِيَّتِهِ ... جَفَّتْ بِذَاكَ الْأَقْلَامُ وَالْكُتُبُ
وَفُرِّعَ عَلَى جَعْلِهِ خَلِيفَةً أَمْرُهُ بِأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبُهُ وَأَنَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ، ذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَرْجِعُ لِلْمَظْلُومِينَ وَالَّذِي تُرْفَعُ إِلَيْهِ مَظَالِمُ الظَّلَمَةِ مِنَ الْوُلَاةِ فَإِذَا كَانَ عَادِلًا خَشِيَهُ الْوُلَاةُ وَالْأُمَرَاءُ لِأَنَّهُ أَلِفَ الْعَدْلَ وَكَرِهَ الظُّلْمَ فَلَا يُقِرُّ مَا يَجْرِي مِنْهُ فِي رَعِيَّتِهِ كُلَّمَا بَلَغَهُ فَيَكُونُ النَّاسُ فِي حَذَرٍ مِنْ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُمْ مَا عَسَى أَنْ يُرْفَعَ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَيَقْتَصَّ مِنَ الظَّالِمِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْخَلِيفَةُ يَظْلِمُ فِي حُكْمِهِ فَإِنَّهُ يَأْلَفُ الظُّلْمَ فَلَا يُغْضِبُهُ إِذَا رُفِعَتْ إِلَيْهِ مَظْلَمَةُ شَخْصٍ وَلَا يَحْرِصُ عَلَى إِنْصَافِ الْمَظْلُومِ.
وَفِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ بَعْضَ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَوْ لِلزُّهْرِيِّ: هَلْ سَمِعْتَ مَا بَلَغَنَا؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ الْخَلِيفَةَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ الْقَلَمُ وَلَا تُكْتَبُ لَهُ مَعْصِيَةٌ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الْخُلَفَاءُ أَفْضَلُ أَمِ الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَالْمُرَادُ بِ النَّاسِ نَاسُ مَمْلَكَتِهِ فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ أَوْ هُوَ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ.
وَالْحَقُّ: هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ الشَّرْعِيُّ مِنْ مُعَامَلَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَتَصَرُّفَاتِهِمْ فِي خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ وَيَتَعَيَّنُ الْحَقُّ بِتَعْيِينِ الشَّرِيعَةِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ بَاءُ الْمَجَازِيَّةِ، جُعِلَ الْحَقُّ كَالْآلَةِ الَّتِي يَعْمَلُ بِهَا الْعَامِلُ فِي قَوْلِكَ: قَطَعَهُ بِالسِّكِّينِ، وَضَرَبَهُ بِالْعَصَا.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى مَعْطُوفٌ عَلَى التَّفْرِيعِ، وَلَعَلَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّفْرِيعِ. وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ بِالْحُكْمِ بِالْحَقِّ لِيَكُونَ تَوْطِئَةً لِلنَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى سَدًّا لِذَرِيعَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute