للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نَظَرٍ عَلَى أَنَّهُ نِظَامٌ عَلَى غَايَةِ الْإِحْكَامِ إِحْكَامًا مُطَّرِدًا، وَهُوَ مَا نَبَّهَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا.

وَمَصَبُّ النَّفْيِ الْحَالُ وَهُوَ قَوْلُهُ: باطِلًا فَهُوَ عَامٌّ لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَبُعْدُ النَّظَرِ يُعْلِمُ النَّاظِرَ أَنَّ خَالِقَهَا حَكِيمٌ عَادِلٌ وَأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْفَاعِلِ يُسْتَدَلُّ بِالظَّاهِرِ مِنْهَا عَلَى الْخَفي، فَكَانَ حَقًا عَلَى الَّذِينَ اعْتَادُوا بِتَحْكِيمِ الْمُشَاهَدَاتِ وَعَدَمِ تَجَاوُزِهَا أَنْ ينْظرُوا بِقِيَاس من خَفِيَ عَنْهُمْ عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ لَهُمْ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَنَّ نِظَامَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا كَانَ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَكَامِلِ النِّظَامِ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَتَدَبَّرُوا فِيمَا خَفِيَ عَنْهُمْ مِنْ

وُقُوعِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ جَارٍ عَلَى نِظَامٍ بَدِيعٍ إِلَّا أَعْمَالَ الْإِنْسَانِ، فَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْمُشَاهَدَةِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ صَالِحِينَ نَافِعِينَ، وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ إِلَى صِنْفِ الْمُجْرِمِينَ الْمُفْسِدِينَ، وَأَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ كَثِيرًا لَمْ يَنَالُوا مِنْ حُظُوظِ الْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ شَيْئًا أَوْ إِلَّا شَيْئًا قَلِيلًا هُوَ أَقَلُّ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ صَلَاحُهُ وَمَا جَاهَدَهُ مِنَ الِارْتِقَاءِ بِنَفْسِهِ إِلَى مَعَارِجِ الْكَمَالِ. وَمِنَ الْمُفْسِدِينَ مَنْ هُمْ بِعَكْسِ ذَلِكَ.

وَالْفَسَادُ: اخْتِلَالٌ اجْتَلَبَهُ الْإِنْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ بِاتِّبَاعِهِ شَهَوَاتِهِ بِاخْتِيَارِهِ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِيهِ، وَبِقُوَاهُ الْبَاطِنِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: ٤، ٦] وَفِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ يَدْنُو النَّاسُ دُنُوًّا مُتَدَرِّجًا إِلَى مَرَاتِبِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ دُنُوًّا مُتَدَلِّيًا إِلَى أَحْضِيَةِ الشَّيَاطِينِ فَكَانَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ تَقْتَضِي أَنْ يَلْتَحِقَ كُلُّ فَرِيقٍ بِأَشْبَاهِهِ فِي النَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ أَوِ الْجَحِيمِ السَّرْمَدِيِّ.

وَلَوْلَا أَنَّ حِكْمَةَ نِظَامِ خَلْقِ الْعَوَالِمِ اقْتَضَتْ أَنْ يُحَالَ بَيْنَ الْعَوَالِمِ الزَّائِلَةِ وَالْعَوَالِمِ السَّرْمَدِيَّةِ فِي الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لِبَقَاءِ هَذِهِ الْأَخِيرَةِ لَأَطَارَ اللَّهُ الصَّالِحِينَ إِلَى أَوْجِ النَّعِيمِ الْخَالِدِ، وَلَدَسَّ الْمُجْرِمِينَ فِي دَرَكَاتِ السَّعِيرِ الْمُؤَبَّدِ، لِعِلَلٍ كَثِيرَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ جُمَاعُهَا رَعْيَ الْإِبْقَاءِ عَلَى خَصَائِصِ الْمَخْلُوقَاتِ حَتَّى تُؤَدِّيَ وَظَائِفَهَا الَّتِي خُلِقَتْ لَهَا، وَهِيَ خَصَائِصُ قَدْ تَتَعَارَضُ فَلَوْ أُوثِرَ بَعْضُهَا عَلَى غَيْرِهِ بِالْإِبْقَاءِ لَأَفْضَى إِلَى زَوَالِ الْآخَرِ، فَمَكَّنَ اللَّهُ كُلَّ نَوْعٍ وَكُلَّ صِنْفٍ مِنَ الْكَدَحِ لِنَوَالِ مُلَائِمِهِ وَأَرْشَدَ الْجَمِيعَ إِلَى الْخَيْرِ وَأَمَرَ وَنَهَى وَبَيَّنَ وَحَدَّدَ.