وَالتَّدَبُّرُ: التَّفَكُّرُ وَالتَّأَمُّلُ الَّذِي يَبْلُغُ بِهِ صَاحِبُهُ مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ مِنَ الْمَعَانِي، وَإِنَّمَا يَكُونُ
ذَلِكَ فِي كَلَامٍ قَلِيلِ اللَّفْظِ كَثِيرِ الْمَعَانِي الَّتِي أُودِعَتْ فِيهِ بِحَيْثُ كُلَّمَا ازْدَادَ المتدبر تدبرا انكشفت لَهُ مَعَانٍ لَمْ تَكُنْ بادية لَهُ بادىء النَّظَرِ. وَأَقْرَبُ مَثَلٍ لِلتَّدَبُّرِ هُنَا هُوَ مَا مَرَّ آنِفًا مِنْ مَعَانِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا إِلَى قَوْلِهِ: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: ٢٧، ٢٨] ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٨٢] .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِيَدَّبَّرُوا بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ. وَأَصْلُ «يَدَّبَّرُوا» يَتَدَبَّرُوا، فَقُلِبَتِ التَّاءُ دَالًّا لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا لِيَتَأَتَّى الْإِدْغَامُ لِتَخْفِيفِهِ وَهُوَ صِيغَةُ تُكَلُّفٍ مُشْتَقَّةٌ مِنْ فِعْلِ:
دَبَرَ بِوَزْنِ ضَرَبَ، إِذَا تَبِعَ، فَتَدَبَّرَهُ بِمَنْزِلَةِ تَتَبَّعَهُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَتَعَقَّبُ ظَوَاهِرَ الْأَلْفَاظِ لِيَعْلَمَ مَا يَدْبِرُ ظَوَاهِرُهَا مِنَ الْمَعَانِي الْمَكْنُونَةِ وَالتَّأْوِيلَاتِ اللَّائِقَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [٦٨] .
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ لِتَدَبَّرُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِّ وَأَصْلُهَا: لِتَتَدَبَّرُوا فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ اخْتِصَارًا، وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَالتَّذَكُّرُ: اسْتِحْضَارُ الذِّهْنِ مَا كَانَ يَعْلَمُهُ وَهُوَ صَادِقٌ بِاسْتِحْضَارِ مَا هُوَ مَنْسِيٌّ وَبِاسْتِحْضَارِ مَا الشَّأْنُ أَنْ لَا يُغْفَلَ عَنْهُ وَهُوَ مَا يَهِمُّ الْعِلْمَ بِهِ، فَجَعَلَ الْقُرْآنَ لِلنَّاسِ لِيَتَدَبَّرُوا مَعَانِيَهُ وَيَكْشِفُوا عَنْ غَوَامِضِهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ فَإِنَّهُمْ عَلَى تَعَاقُبِ طَبَقَاتِ الْعُلَمَاءِ بِهِ لَا يَصِلُونَ إِلَى نِهَايَةٍ مِنْ مَكْنُونِهِ وَلِتَذَكُّرِهِمُ الْآيَةَ بِنَظِيرِهَا وَمَا يُقَارِبُهَا، وَلِيَتَذَكَّرُوا مَا هُوَ مَوْعِظَةٌ لَهُمْ وَمُوقِظٌ مِنْ غَفَلَاتِهِمْ.
وَضَمِيرُ «يَدَّبَّرُوا» عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ عَائِد إِلَى أُولُوا الْأَلْبابِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِضْمَارِ لِلْفِعْلِ الْمُهْمَلِ عَنِ الْعَمَلِ فِي التَّنَازُعِ، وَالتَّقْدِيرُ: لِيَدَّبَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ آيَاتِهِ وَيَتَذَكَّرُوا، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ فَإِسْنَادُ «يتَذَكَّر» إِلَى أُولُوا الْأَلْبابِ اكْتِفَاءٌ عَنْ وَصْفِ الْمُتَدَبِّرِينَ بِأَنَّهُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ لِأَنَّ التَّدَبُّرَ مُفْضٍ إِلَى التَّذَكُّر. وَالتَّذَكُّرُ مِنْ آثَارِ التَّدَبُّرِ فَوَصْفُ فَاعِلِ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ يُغْنِي عَنْ وَصْفِ فَاعِلِ الْفِعْلِ الْآخَرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute