الْمَسْحِ وَلَكِنَّهُ يَقْتَضِي إِجْرَاءَ تَرْتِيبِ الْجُمَلِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ أَيْ بَعْدَ أَنِ اسْتَعْرَضَهَا وَانْصَرَفُوا بِهَا لِتَأْوِيَ إِلَى مَذَاوِدِهَا قَالَ: رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ إِكْرَامًا لَهَا وَلِحُبِّهَا. وَيُجْعَلُ قَوْلُهُ: فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ مُعْتَرِضًا بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا قُدِّمَ لِلتَّعْجِيلِ بِذِكْرِ نَدَمِهِ عَلَى تَفْرِيطِهِ فِي ذِكْرِ اللَّهِ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِ ذِكْرِهِ، أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَغْرِقْ فِي الذُّهُولِ بَلْ بَادَرَ الذِّكْرَى بِمُجَرَّدِ فَوَاتِ وَقْتِ الذِّكْرِ الَّذِي اعْتَادَهُ، إِذْ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ إِلَخْ مِنْ آثَارِ نَدَمِهِ وَتَحَسُّرِهِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ فَوَاتَ وَقْتِ ذِكْرِهِ نَشَأَ عَنْ ذَلِكَ الرَّدِّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ بِقَوْلِهِ: رُدُّوها عَلَيَّ فَإِنَّهُمُ اعْتَادُوا أَنْ يَعْرِضُوهَا عَلَيْهِ وَيَنْصَرِفُوا وَقَدْ بَقِيَ مَا يَكْفِي مِنَ الْوَقْتِ لِلذِّكْرِ فَلَمَّا حَمَلَتْهُ بَهْجَتُهُ بِهَا عَلَى أَنْ أَمَرَ بِإِرْجَاعِهَا وَاشْتَغَلَ بِمَسْحِ أَعْنَاقِهَا وَسُوقِهَا خَرَجَ وَقْتُ ذِكْرِهِ فَتَنَدَّمَ وَتَحَسَّرَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَالْفَرَّاءِ وَثَعْلَبٍ: أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا نَدِمَ عَلَى اشْتِغَالِهِ بِالْخَيْلِ حَتَّى أَضَاعَ ذِكْرَ اللَّهِ فِي وَقْتٍ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ أَمَرَ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ الْخَيْلُ الَّتِي شَغَلَتْهُ فَجَعَلَ يُعَرْقِبُ سُوقَهَا وَيَقْطَعُ أَعْنَاقَهَا لِحِرْمَانِ نَفْسِهِ مِنْهَا مَعَ مَحَبَّتِهِ إِيَّاهَا تَوْبَةً مِنْهُ وَتَرْبِيَةً لِنَفْسِهِ. وَاسْتَشْعَرُوا أَنَّ هَذَا فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ وَإِضَاعَةٌ لِلْمَالِ فَأَجَابُوا:
بِأَنَّهُ أَرَادَ ذَبحهَا ليأكلها الْفُقَرَاءُ لِأَنَّ أَكْلَ الْخَيْلِ مُبَاحٌ عِنْدَهُمْ وَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَبْحُهَا فَسَادًا فِي الْأَرْضِ.
وَتَجَنَّبَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْوَجْهَ وَجَعَلَ الْمَسْحَ مُسْتَعَارًا لِلتَّوْسِيمِ بِسِمَةِ الْخَيْلِ الْمَوْقُوفَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِكَيِّ نَارٍ أَوْ كَشْطِ جِلْدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يُزِيلُ الْجِلْدَةَ الرَّقِيقَةَ الَّتِي عَلَى ظَاهِرِ الْجِلْدِ، فَشُبِّهَتْ تِلْكَ الْإِزَالَةُ بِإِزَالَةِ الْمَسْحِ مَا عَلَى ظَهْرِ الْمَمْسُوحِ مِنْ مُلْتَصِقٍ بِهِ، وَهَذَا أَسْلَمُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَعْزُوٌّ لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» لِابْنِ الْعَرَبِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّهُ وَهَمَ. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ جَلِيلَةٌ مِنْ طَرَائِقِ تَرْبِيَةِ النَّفْسِ وَمَظَاهِرِ كَمَالِ التَّوْبَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانَ سَبَبًا فِي الْهَفْوَةِ.
وَعَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ يَكُونُ قَوْلُهُ: فَطَفِقَ تَعْقِيبًا عَلَى رُدُّوها عَلَيَّ وَعَلَى مَحْذُوفٍ بَعْدَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: فَرَدُّوهَا عَلَيْهِ فَطَفِقَ، كَقَوْلِهِ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute