بِضِدِّهِ، كَانَ قَوْلُهُ «بِهِمْ» بَيَانًا لِمَنْ وُجِّهَ الدُّعَاءُ لَهُمْ، أَيْ إِيضَاحًا لِلسَّامِعِ أَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى أَصْحَابِ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ فَكَانَتِ الْبَاءُ فِيهِ لِلتَّبْيِينِ. قَالَ فِي «الْكَشَّاف» : و «بهم» بَيَانٌ لِمَدْعُوٍّ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ الْهَمَذَانِيُّ فِي شَرْحِهِ «لِلْكَشَّافِ» : يَعْنِي: الْبَيَانَ الْمُصْطَلَحَ، كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: بِمَنْ يَحْصُلُ هَذَا الرَّحْبُ؟ فَيَقُولُ: بِهِمْ. وَهَذَا كَمَا فِي هَيْتَ لَكَ [يُوسُف: ٢٣] . يَعْنِي أَنَّ الْبَاءَ فِيهِ بِمَعْنَى لَامِ التَّبْيِينِ. وَهَذَا الْمَعْنَى أَغْفَلَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي مَعَانِي الْبَاءِ. وَأَشَارَ الْهَمَذَانِيُّ إِلَى
أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ. وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مُتَوَلِّدًا مِنْ مَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْبَاءَ فِي مِثْلِهِ فِي كَلَامِهِمْ فَصَارَ كَالْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ إِنْشَاءَ دُعَاءٍ لَمْ تَبْقَ مَعَهُ مُلَاحَظَةُ الْإِخْبَارِ بِحُصُولِ الرَّحْبِ مَعَهُمْ أَوْ بِسَبَبِهِمْ كَمَا يَتَّجِهُ بِالتَّأَمُّلِ.
وَجُمْلَةُ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا عِلَّةٌ لِقَلْبِ سَبَبِ الشَّتْمِ إِلَيْهِمْ، أَيْ لِأَنَّكُمْ قَدَّمْتُمُ الْعَذَابَ لَنَا، فَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَدَّمْتُمُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْعَذَابِ الْمُشَاهَدِ، وَهُوَ حَاضِرٌ فِي الذِّهْنِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ، مِثْلُ حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٢] . وَوُقُوعُ أَنْتُمْ قَبْلَ قَدَّمْتُمُوهُ الْمُسْنَدُ الْفِعْلِيُّ يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ لَمْ يُضِلَّنَا غَيْرُكُمْ فَأَنْتُمْ أَحِقَّاءُ بِالْعَذَابِ.
وَالتَّقْدِيمُ: جَعْلُ الشَّيءِ قُدَّامَ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمرَان: ١٨١، ١٨٢] . فَتَقْدِيمُ الْعَذَابُ لَهُمْ جَعْلُهُ قُدَّامَهُمْ، أَيْ جَعْلُهُ حَيْثُ يَجِدُونَهُ عِنْدَ وُصُولِهِمْ. وَإِسْنَادُ تَقْدِيمِ الْعَذَابِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الرُّؤَسَاءَ كَانُوا سَبَبًا فِي تَقْدِيمِ الْعَذَابِ لِأَتْبَاعِهِمْ بِإِغْوَائِهِمْ وَكَانَ الْعَذَابُ جَزَاءً عَنِ الْغَوَايَةِ. وَجُعِلَ الْعَذَابُ مُقَدَّمًا وَإِنَّمَا الْمُقَدَّمُ الْعَمَلُ الَّذِي اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ، وَهَذَا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ فِي الْمَفْعُولِ فَاجْتَمَعَ فِي قَوْلِهِ: قَدَّمْتُمُوهُ مَجَازَانِ عَقْلِيَّانِ.
وَقَوْلُهُ: فَبِئْسَ الْقَرارُ مَوْقِعُهُ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ آنِفًا فَبِئْسَ الْمِهادُ [ص: ٥٦] . وَهُوَ ذَمٌّ لِإِقَامَتِهِمْ فِي جَهَنَّمَ تَشْنِيعًا عَلَيْهِمْ فِيمَا تَسَبَّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: فَبِئْسَ الْقَرَارُ مَا قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا، أَيْ الْعَذَابُ. والقرار: الْمكْث.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute