للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمُرَتَّبَةِ لَهَا أَسْبَابٌ تُبَاشِرُهَا مِنْ حَمَلٍ وَوِلَادَةٍ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي تَخَلُّقِ الْمَوْجُودَاتِ عَنْ أُصُولِهَا. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ خَلْقَ آدَمَ فِيهِ عِنَايَةٌ زَائِدَةٌ وَتَشْرِيفُ اتِّصَالٍ أَقْرَبُ. فَالْيَدَانِ تَمْثِيلٌ لِتَكَوُّنِ آدَمَ مِنْ مُجَرَّدِ أَمْرِ التَّكْوِينِ لِلطِّينِ بِهَيْئَةِ صُنْعِ الْفَخَّارِيِّ لِلْإِنَاءِ مِنْ طِينٍ إِذْ يُسَوِّيهِ بِيَدَيْهِ. وَكَانَ السَّلَفُ يُقِرُّونَ أَنَّ الْيَدَيْنِ صِفَةٌ خَاصَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِوُرُودِهِمَا فِي الْقُرْآنِ مَعَ جَزْمِهِمْ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَعَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَقَصْدُهُمُ الْحَذَرُ مِنْ تَحْكِيمِ الْآرَاءِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ، أَوْ أَنْ تَحْمِلَ الْعُقُولُ الْقَاصِرَةُ صِفَاتِ اللَّهِ عَلَى مَا تَعَارَفَتْهُ وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: ٣٩] وَقَالَ مَرَّةً فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨] . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْآيَات المشاهبة فِي أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.

وَفِي إِلْقَاءِ هَذَا السُّؤَالِ إِلَى إِبْلِيسَ قَطْعٌ بِمَعْذِرَتِهِ. وَالْمَعْنَى: أَمِنْ أَجْلِ أَنَّكَ تَتَعَاظَمُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَمْ لِأَنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْعُلُوِّ، وَالْمُرَادُ بِالْعُلُوِّ الشَّرَفُ، أَيْ مِنَ الْعَالِينَ عَلَى آدَمَ فَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ تُعَظِّمَهُ فَأَجَابَ إِبْلِيسُ مِمَّا يُشَقُّ الثَّانِي. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَعُدُّ نَفْسَهُ أَفْضَلَ مِنْ آدَمَ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ وَآدَمَ مَخْلُوقٌ مِنَ الطِّينِ، يَعْنِي وَالنَّارُ أَفْضَلُ مِنَ الطِّينِ، أَيْ فِي رَأْيِهِ. وَعَبَّرَ عَنْ آدَمَ بَاسِمِ «مَا» الْمَوْصُولَةِ وَهُوَ حِينَئِذٍ إِنْسَانٌ لِأَنَّ سُجُودَ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ كَانَ بَعْدَ خَلْقِهِ وَتَعْلِيمِهِ الْأَسْمَاءَ كَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ أَنَّ «مَا» لَا تَخْتَصُّ بِغَيْرِ الْعَاقِلِ وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ.

وَقَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ قَوْلٌ مِنَ الشَّيْطَانَ حُكِيَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَجُمْلَةُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ. وَقَدْ جَعَلَ إِبْلِيسُ عُذْرَهُ مَبْنِيًّا عَلَى تَأْصِيلِ أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ اللَّهَ رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا التَّأْصِيلَ لِأَنَّهُ أَحْقَرُ مِنْ ذَلِكَ فَلَعَنَهُ وَأَطْرَدَهُ لِأَنَّهُ ادَّعَى بَاطِلًا وَعَصَى رَبَّهُ اسْتِكْبَارًا: وَطَرْدُهُ أَجْمَعُ لِإِبْطَالِ عِلْمِهِ وَدَحْضِ دَلِيلِهِ، غَيْرَ أَنَّ النُّورَ الَّذِي فِي النَّارِ نُورٌ عَارِضٌ قَائِمٌ بِالْأَجْسَامِ الْمُلْتَهِبَةِ

الَّتِي تُسَمَّى نَارًا، وَلَيْسَ لِلنَّارِ قِيَامٌ بِنَفْسِهَا وَلِذَلِكَ لَمْ تُعَدَّ أَنْ يَكُونَ كِيَانُهَا مَخْلُوطًا بِمَا يُلْهِبُهَا.

وَمَعْنَى كَوْنِ الشَّيْطَانِ مَخْلُوقًا مِنَ النَّارِ أَنَّ ابْتِدَاءَ تَكَوُّنِ الذَّرَّةِ الْأَصْلِيَّةِ لِقِوَامِ