للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ.

اسْتِدْلَالٌ بِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَنْعَامِ عُطِفَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ يَوْمَئِذٍ قِوَامُ حَيَاتِهِمْ بِالْأَنْعَامِ وَلَا تَخْلُو الْأُمَمُ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الْأَنْعَامِ وَلَمْ تَزَلِ الْحَاجَةُ إِلَى الْأَنْعَامِ حَافَّةً بِالْبَشَرِ فِي قِوَامِ حَيَاتِهِمْ. وَهَذَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَبَيْنَ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لِمُنَاسِبَةِ أَزْوَاجِ الْأَنْعَامِ لِزَوْجِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ.

وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ امْتِنَانٌ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:

لَكُمْ لِأَنَّ فِي الْأَنْعَامِ مَوَادَّ عَظِيمَةً لِبَقَاءِ الْإِنْسَانِ وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النَّحْل: ٥- ٧] وَقَوْلِهِ: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها إِلَخْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٨٠] .

وَالْإِنْزَالُ: نَقْلُ الْجِسْمِ مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ، وَيُطْلَقُ عَلَى تَذْلِيلِ الْأَمْرِ الصَّعْبِ كَمَا يُقَالُ: نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ فُلَانٍ، لِأَنَّ الْأَمْرَ الصَّعْبَ يُتَخَيَّلُ صَعْبَ الْمَنَالِ كَالْمُعْتَصِمِ بِقِمَمِ الْجِبَالِ، قَالَ خَصَّابُ بْنُ الْمُعَلَّى مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:

أَنْزَلَنِي الدَّهْرُ عَلَى حُكْمِهِ ... مِنْ شَاهِقٍ عَالٍ إِلَى خَفْضِ

فَإِطْلَاقُ الْإِنْزَالِ هُنَا بِمَعْنَى التَّذْلِيلِ وَالتَّمْكِينِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الْحَدِيدَ: ٢٥] أَيْ سَخَّرْنَاهُ لِلنَّاسِ فَأَلْهَمْنَاهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ قَيْنِهِ يَتَّخِذُونَهُ سُيُوفًا وَدُرُوعًا وَرِمَاحًا وَعَتَادًا مَعَ شِدَّتِهِ وَصَلَابَتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْزَالُ الْأَنْعَامِ إِنْزَالَهَا الْحَقِيقِيَّ، أَيْ إِنْزَالُ أُصُولِهَا مِنْ سَفِينَةِ نُوحٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْأَعْرَاف: ١١] ، أَيْ خَلَقْنَا أَصْلَكُمْ وَهُوَ آدَمُ، قَالَ تَعَالَى: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود: ٤٠] فَيَكُونُ الْإِنْزَالُ هُوَ الْإِهْبَاطُ قَالَ تَعَالَى: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود: ٤٨] ، فَهَذَانِ وَجْهَانِ حَسَنَانِ لِإِطْلَاقِ الْإِنْزَالِ، وَهُمَا أَحْسَنُ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُفَسِّرِينَ إِنْزَالَ الْأَنْعَامِ بِمَعْنَى الْخَلْقِ، أَيْ لِأَنَّ خَلْقَهَا بِأَمْر التكوين الَّذِي يَنْزِلُ مِنْ حَضْرَةِ الْقُدْسِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ.