للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رِسَالَةَ الرَّسُولِ وَجَمِيعَ مَا جَاءَ بِهِ، وَإِمَّا إِلَى الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [الْبَقَرَة: ١٤٥] .

وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ تَشْبِيهٌ فِي جَلَاءِ الْمَعْرِفَةِ وَتَحَقُّقِهَا فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْمَرْءِ بِعَلَائِقِهِ مَعْرِفَةٌ لَا تَقْبَلُ اللَّبْسَ، كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ:

فَهُنَّ وَوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ

تَشْبِيهًا لِشِدَّةِ الْقُرْبِ الْبَيِّنِ.

وَخَصَّ الْأَبْنَاءَ لِشِدَّةٍ تَعَلُّقِ الْآبَاءِ بِهِمْ فَيَكُونُ التَّمَلِّي مِنْ رُؤْيَتِهِمْ كَثِيرًا فَتَتَمَكَّنُ مَعْرِفَتُهُمْ فَمَعْرِفَةُ هَذَا الْحَقِّ ثَابِتَةٌ لِجَمِيعِ عُلَمَائِهِمْ.

وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ يَعْلَمُونَهُ إِلَى يَعْرِفُونَهُ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَتَعَلَّقُ غَالِبًا بِالذَّوَاتِ وَالْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ قَالَ تَعَالَى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: ٢٤] وَقَالَ زُهَيْرٌ:

فَلَأْيًا عَرَفَتُ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ

وَتَقُولُ عَرَفْتُ فُلَانًا وَلَا تَقُولُ عَرَفْتُ عِلْمَ فُلَانٍ، إِلَّا إِذَا أَرَدْتَ أَنَّ عِلْمَهُ صَارَ كَالْمُشَاهَدِ عِنْدَكَ، وَلِهَذَا لَا يُعَدَّى فِعْلُ الْعِرْفَانِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَمَا تُعَدَّى أَفْعَالُ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ، وَلِهَذَا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِصِفَةِ الْعِلْمِ فَيُقَالُ الْعَلِيمُ، وَلَا يُوصَفُ بِصِفَةِ الْمَعْرِفَةِ فَلَا يُقَالُ اللَّهُ يَعْرِفُ كَذَا، فَالْمَعْنى يعْرفُونَ الصِّفَات الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَامَاتِهِ الْمَذْكُورَةَ فِي كُتُبِهِمْ، وَيَعْرِفُونَ الْحَقَّ كَالشَّيْءِ الْمُشَاهَدِ.

وَالْمُرَادُ بُقُولِهِ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلِذَلِكَ عُرِّفُوا بِأَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ أَيْ عَلِمُوا عِلْمَ التَّوْرَاةِ وَعِلْمَ الْإِنْجِيلِ.

وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِالْعِنَادِ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ وَفِي غَيْرِهِ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَمٌّ لَهُم بِأَنَّهُم يكتموددن الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَهُ وَهَؤُلَاءِ مُعْظَمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ قَبْلَ ابْنِ صُورِيَّا وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَبَقِيَ فَرِيقٌ آخَرُ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيُعْلِنُونَ بِهِ وَهُمُ الَّذِينَ آمنُوا بالنبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مِنَ الْيَهُودِ قَبْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَمِنَ النَّصَارَى مِثْلُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَصُهَيْبٍ.

أَمَّا الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكْتُمُوهُ فَلَا يُعْبَأُ بِهِمْ فِي هَذَا الْمُقَامِ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَلَا يَشْمَلُهُمْ قَوْلُهُ: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ.