وَمِنْ أَجْلِ هَذَا شَاعَ تَشْبِيهُ الْعِلْمِ بِالنُّورِ وَالْجَهْلِ بِالظُّلْمَةِ.
الْمقَام الثَّانِي: ناشىء عَنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مقَام السَّلَام مِنْ نَوَائِبِ الْخَطَأِ وَمُزِلَّاتِ الْمَذَلَاتِ، فَالْعَالِمُ يَعْصِمُهُ عِلْمُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْجَاهِلُ يُرِيدُ السَّلَامَةَ فَيَقَعُ فِي الْهَلَكَةِ، فَإِنَّ الْخَطَأَ قَدْ يُوقِعُ فِي الْهَلَاكِ مِنْ حَيْثُ طَلَبِ الْفَوْزِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: ١٦] إِذْ مَثَّلَهُمْ بِالتَّاجِرِ خَرَجَ يَطْلُبُ فَوَائِدَ الرِّبْحِ مِنْ تِجَارَتِهِ فَآبَ بِالْخُسْرَانِ وَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ سَعْيُ الْجَاهِلِ بِخَبْطِ الْعَشْوَاءِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَزَلْ أَهْلُ النُّصْحِ يُسَهِّلُونَ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ الْوَسَائِلَ الَّتِي تَقِيهُمُ الْوُقُوعَ فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.
الْمَقَامُ الثَّالِثُ: مَقَامُ أُنْسِ الِانْكِشَافِ فَالْعَالِمُ تَتَمَيَّزُ عِنْدَهُ الْمَنَافِعُ وَالْمَضَارُّ وَتَنْكَشِفُ لَهُ الْحَقَائِقُ فَيَكُونُ مَأْنُوسًا بِهَا وَاثِقًا بِصِحَّةِ إِدْرَاكِهِ وَكُلَّمَا انْكَشَفَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ كَانَ كَمَنْ لَقِيَ أَنِيسًا بِخِلَافِ غَيْرِ الْعَالِمِ بِالْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ حِينَ تَخْتَلِطُ عَلَيْهِ الْمُتَشَابِهَاتُ فَلَا يَدْرِي مَاذَا يَأْخُذُ وَمَاذَا يَدَعُ، فَإِنِ اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ خَشِيَ الزَّلَلَ وَإِنْ قَلَّدَ خَشِيَ زَلَلَ مُقَلَّدِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا [الْبَقَرَة:
٢٠] .
الْمَقَامُ الرَّابِعُ: مَقَامُ الْغِنَى عَنِ النَّاسِ بِمِقْدَارِ الْعِلْمِ وَالْمَعْلُومَاتِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ عِلْمُ الْعَالِمِ قَوِيَ غِنَاهُ عَنِ النَّاسِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ.
الْمَقَامُ الْخَامِسُ: الِالْتِذَاذُ بِالْمَعْرِفَةِ، وَقَدْ حَصَرَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ اللَّذَّةُ فِي الْمَعَارِفِ وَهِيَ لَذَّةٌ لَا تَقْطَعُهَا الْكَثْرَةُ. وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بِالظِّلِّ إِذْ قَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ [فاطر: ١٩- ٢١] فَإِنَّ الْجُلُوسَ فِي الظِّلِّ يَلْتَذُّ بِهِ أَهْلُ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ.
الْمَقَامُ السَّادِسُ: صُدُورُ الْآثَارِ النَّافِعَةِ فِي مَدَى الْعُمْرِ مِمَّا يُكْسِبُ ثَنَاءَ النَّاسِ فِي الْعَاجِلِ وَثَوَابَ اللَّهِ فِي الْآجِلِ، فَإِنَّ الْعَالِمَ مَصْدَرُ الْإِرْشَادِ وَالْعِلْمِ دَلِيل عَلَى الْخَيْرِ وَقَائِدٌ إِلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] . وَالْعِلْمُ عَلَى مُزَاوَلَتِهِ
ثَوَابٌ جَزِيلٌ،
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةَ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»
.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute