للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَفِي اسْتِحْضَارِهِمْ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ تَقَرُّرَ إِيمَانُهُمْ مِمَّا يَقْتَضِي التَّقْوَى وَالِامْتِثَالَ لِلْمُهَاجَرَةِ. وَجُمْلَةُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ إِيرَادَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى لِلْمُتَّصِفِينَ بِهَا يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلِ عَنِ الْمَقْصُودِ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ فَأُرِيدُ بَيَانُهُ بِقَوْلِهِ: أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ، وَلَكِنْ جُعِلَ قَوْلُهُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ تَمْهِيدًا لَهُ لِقَصْدِ تَعْجِيلِ التَّكَفُّلِ لَهُمْ بِمُوَافَقَةِ الْحُسْنَى فِي هِجْرَتِهِمْ.

وَيَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ جُمْلَةُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ مَسُوقَةً مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالتَّقْوَى الْوَاقِعِ بَعْدَهَا.

وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أَحْسَنُوا: الَّذِينَ اتَّقَوُا اللَّهَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ [الزمر: ٩] الْآيَةَ، لِأَنَّ تِلْكَ الْخِصَالَ تَدُلُّ عَلَى الْإِحْسَانِ الْمُفَسَّرِ

بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»

، فَعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ بِضَمِيرِ

الْخِطَابِ بِأَنْ يُقَالَ: لَكُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةٌ، إِلَى الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا لِيَشْمَلَ الْمُخَاطِبِينَ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ ثَبَتَتْ لَهُ هَذِهِ الصِّلَةُ. وَذَلِكَ فِي مَعْنَى: اتَّقَوْا رَبَّكُمْ لِتَكُونُوا مُحْسِنِينَ فَإِنَّ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا حَسَنَةً عَظِيمَةً فَكُونُوا مِنْهُمْ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ فِي لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُحْسَنِ إِلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ أَحْرِيَاءٌ بِالْإِحْسَانِ.

وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ الْحَالَةُ الْحَسَنَةُ، وَاسْتُغْنِيَ بِالْوَصْفِ عَنِ الْمَوْصُوفِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ:

رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [الْبَقَرَة: ٢٠١] . وَقَوْلِهِ فِي عَكْسِهِ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠] . وَتَوْسِيطُ قَوْلِهِ: فِي هذِهِ الدُّنْيا بَيْنَ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وَبَيْنَ حَسَنَةٌ نَظْمٌ مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ الْقُرْآنُ فِي مَوَاقِعِ الْكَلِمِ لِإِكْثَارِ الْمَعَانِي الَّتِي يَسْمَحُ بِهَا النَّظْمُ، وَهَذَا مِنْ طُرُقِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. فَيَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ قَوْلُهُ: فِي هذِهِ الدُّنْيا حَالًا مِنْ حَسَنَةٌ قُدِّمَ عَلَى صَاحِبِ الْحَالِ لِلتَّنْبِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهَا جَزَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا، لِقِلَّةِ خُطُورِ ذَلِكَ فِي بَالِهِمْ ضَمِنَ اللَّهُ لَهُمْ تَعْجِيلَ الْجَزَاءِ الْحَسَنِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ عَلَى