للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَفِي ذِكْرِ التَّوْفِيَةِ وَإِضَافَةِ الْأَجْرِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ تَأْنِيسٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ لَا مِنَّةَ عَلَيْهِمْ فِيهِ وَإِنْ كَانَتِ الْمِنَّةُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق: ٢٥] .

وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّما مُنْصَبٌّ عَلَى الْقَيْدِ وَهُوَ بِغَيْرِ حِسابٍ وَالْمَعْنَى: مَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ إِلَّا بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ مَبْنِيٌّ عَلَى قَلْبِ ظَنِّ الصَّابِرِينَ أَنَّ أَجْرَ صَبْرِهِمْ بِمِقْدَارِ صَبْرِهِمْ، أَيْ أَنَّ أَجْرَهُمْ لَا يَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ مَشَقَّةِ صَبْرِهِمْ.

وَالْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ كَانَتْ سَنَةَ خَمْسٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ وَأَنَّ عَمَّهُ أَبَا طَالِبِ كَانَ يَمْنَعُ ابْنَ أَخِيهِ مِنْ أَضْرَارِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَمْنَعَ أَصْحَابَهُ

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ»

، فَخَرَجَ مُعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ فَخَرَجَ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا وَتِسْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً سِوَى أَبْنَائِهِمُ الَّذِينَ خَرَجُوا بِهِمْ صِغَارًا. وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرِ الصِّدِّيقُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ قَاصِدًا بِلَادَ الْحَبَشَةِ فَلَقِيَهُ ابْنُ الدِّغِنَّةِ فَصَدَّهُ وَجَعَلَهُ فِي جِوَارِهِ.

وَلِمَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِنَشْرِ الْإِسْلَامِ فِي مَكَّةَ بَيْنَ الْعَرَبِ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ وَعُذِرَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا لَقُوهُ مِنَ الْأَذَى فِي دِينِهِمْ أَذِنَ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ وَكَانَتْ حِكْمَتُهُ مُقْتَضِيَةً بَقَاءَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ ظَهْرَانِيِّ الْمُشْرِكِينَ لِبَثِّ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالْهِجْرَةِ إِلَى مَوْطِنٍ آخَرَ حَتَّى إِذَا تَمَّ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ تَوَشُّجِ نَوَاةِ الدِّينِ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ الَّتِي نَشَأَ فِيهَا رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْبَحَ انْتِقَالُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ أَسْعَدَ بِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَرْضِ أَذِنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ هَيَّأَ لَهُ بِلُطْفِهِ دُخُولَ أَهْلِهَا فِي الْإِسْلَامِ وَكُلُّ ذَلِكَ جَرَى بِقَدَرٍ وَحِكْمَةٍ ولطف بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.