للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تَرَكُوا الْحُكْمَ بِالْإِنْجِيلِ لَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمُحَمَّدٍ. وَكَذَلِكَ

حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الْأَنْعَام: ٨٢] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ (ظَنُّوا أَنَّ الظُّلْمَ هُوَ الْمَعْصِيَةُ) . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّهُ لَيْسَ بِذَلِكَ؟ أَلَا تَسْمَعُ لِقَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ

[لُقْمَان: ١٣] . وَمِنْ هَذَا الْقسم مَالا يُبَيِّنُ مُجْمَلًا وَلَا يُؤَوِّلُ مُتَشَابِهًا وَلَكِنَّهُ يُبَيِّنُ وَجْهَ تَنَاسُبِ الْآيِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٣] وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ الْآيَةَ، فَقَدْ تَخْفَى الْمُلَازَمَةُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ فَيُبَيِّنُهَا مَا فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ سَأَلَهَا عَنْهَا فَقَالَتْ: «هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا تُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ فَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي الصَّدَاقِ، فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ» .

هَذَا وَإِنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ جَاءَ لِهَدْيِ أُمَّةٍ وَالتَّشْرِيعِ لَهَا، وَهَذَا الْهَدْيُ قَدْ يَكُونُ وَارِدًا قَبْلَ الْحَاجَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مُخَاطَبًا بِهِ قَوْمٌ عَلَى وَجْهِ الزَّجْرِ أَوِ الثَّنَاء أَو غير هما، وَقَدْ يَكُونُ مُخَاطَبًا بِهِ جَمِيعُ مَنْ يَصْلُحُ لِخِطَابِهِ، وَهُوَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ بِكُلِّيَّاتٍ تَشْرِيعِيَّةٍ وَتَهْذِيبِيَّةٍ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ وَعْيُ الْأُمَّةِ لِدِينِهَا سَهْلًا عَلَيْهَا، وَلِيُمْكِنَ تَوَاتُرُ الدِّينِ، وَلِيَكُونَ لِعُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مَزِيَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يَجْعَلَ الْقُرْآنَ أَضْعَافَ هَذَا الْمُنَزَّلِ وَأَنْ يُطِيلَ عُمَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّشْرِيعِ أَكْثَرَ مِمَّا أَطَالَ عُمَرَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:

وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [الْمَائِدَة: ٣] ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ حَمْلُ كَلِمَاتِهِ عَلَى خُصُوصِيَّاتٍ جُزْئِيَّةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ مُرَادَ اللَّهِ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَعْمِيمُ مَا قُصِدَ مِنْهُ الْخُصُوصُ وَلَا إِطْلَاقُ مَا قُصِدَ مِنْهُ التَّقْيِيدُ لِأَنَّ ذَلِك قد يقْضِي إِلَى التَّخْلِيطِ فِي الْمُرَادِ أَوْ إِلَى إِبْطَالِهِ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَدِ اغْتَرَّ بَعْضُ الْفِرَقِ بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ سِيرِينَ فِي الْخَوَارِجِ: إِنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى آيَاتِ الْوَعِيدِ النَّازِلَةِ فِي الْمُشْرِكِينَ فَوَضَعُوهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَجَاءُوا بِبِدْعَةِ الْقَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ بِالذَّنْبِ، وَقد قَالَ الحورية لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ التَّحْكِيمِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الْأَنْعَام: ٥٧]

فَقَالَ عَلِيٌّ «كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ»

وَفَسَّرَهَا فِي خُطْبَةٍ لَهُ فِي «نَهْجِ الْبَلَاغَةِ» .

وَثَمَّةَ فَائِدَةٌ أُخْرَى عَظِيمَةٌ لِأَسْبَابِ النُّزُولِ وَهِيَ أَنَّ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ عِنْدَ حُدُوثِ

حَوَادِثَ دَلَالَةٌ عَلَى إِعْجَازِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الِارْتِجَالِ، وَهِيَ إِحْدَى طَرِيقَتَيْنِ لِبُلَغَاءِ الْعَرَبِ فِي أَقْوَالِهِمْ، فَنُزُولُهُ عَلَى حَوَادِثَ يَقْطَعُ دَعْوَى مَنِ ادَّعَوْا أَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.