للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْقَوْلَ تَنْفِيسًا عَنْهُ مِنْ كَدْرِ الْأَسَى عَلَى قَوْمِهِ، وَإِعْذَارًا لَهُمْ بِالنِّذَارَةِ، وَإِشْعَارًا لَهُمْ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي جَانِبِهِمْ مُضَاعٌ، وَأَنَّ الْأَجْدَرَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَارِكَتُهُمْ وَأَنْ يُفَوِّضَ الْحُكْمَ فِي خِلَافِهِمْ إِلَى اللَّهِ. وَفِي هَذَا التَّفْوِيضِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ هُوَ الْوَاثِقُ بِحَقِيَّةِ دِينِهِ الْمُطْمَئِنُّ بِأَنَّ التَّحْكِيمَ يُظْهِرُ حَقَّهُ وَبَاطِلَ خَصْمِهِ.

وَابْتُدِئَ خِطَابُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ بِالنِّدَاءِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَوْجِيهٍ وَتَحَاكُمٍ. وَإِجْرَاءُ الْوَصْفَيْنِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بِخُضُوعِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ لِحُكْمِهِ وَشُمُولِ عِلْمِهِ لِدَخَائِلِهِمْ مِنْ مُحِقٍّ وَمُبْطِلٍ.

وَالْفَاطِرُ: الْخَالِقُ، وَفَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَاطِرٌ لِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ. وَوَصْفُ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُشْعِرٌ بِصِفَةِ الْقُدْرَةِ، وَتَقْدِيمُهُ قَبْلَ وَصْفِ الْعِلْمِ لِأَنَّ شُعُورَ النَّاسِ بِقُدْرَتِهِ سَابِقٌ عَلَى شُعُورِهِمْ بِعِلْمِهِ، وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِطَلَبِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِلْزَامٌ وَقَهْرٌ فَهُوَ مِنْ آثَارِ الْقُدْرَةِ مُبَاشَرَةً.

وَالْغَيْبُ: مَا خَفِيَ وَغَابَ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ، وَالشَّهَادَةُ: مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِحْسَاسِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْعُلُومِ.

وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَ عِبادِكَ دُونَ أَنْ يَقُولَ:

بَيْنَنَا، لِمَا فِي عِبادِكَ مِنَ الْعُمُومِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُضَافٌ فَيَشْمَلُ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ فِي قَضِيَّتِهِمْ هَذِهِ وَالْحُكْمَ بَيْنَ كُلِّ مُخْتَلِفِينَ لِأَنَّ التَّعْمِيمَ أَنْسَبُ بِالدُّعَاءِ وَالْمُبَاهَلَةِ.

وَجُمْلَةُ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّعَاءِ. وَالْمَعْنَى: احْكُمْ بَيْنَنَا.

وَفِي تَلْقِينِ هَذَا الدُّعَاءِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ الْحَقُّ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ تَحْكُمُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ أَنْتَ لَا غَيْرُكَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْفَرِيقَيْنِ مَنْ يعْتَقد أَن غير اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ فَيَكُونُ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِمُفَادِ الْقَصْرِ، تَعَيَّنَ أَنَّ الْقَصْرَ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً تَلْوِيحِيَّةً