آخِرِهَا، أَيْ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا مِنْ جَهَنَّمَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُتَكَبِّرِينَ. وَهَذَا إِيذَانٌ بِأَنَّ التَّقْوَى تُنَافِي التَّكَبُّرَ لِأَنَّ التَّقْوَى كَمَالُ الْخُلُقِ الشَّرْعِيِّ وَتَقْتَضِي اجْتِنَابَ الْمَنْهِيَّاتِ وَامْتِثَالَ الْأَمْرِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَالْكِبْرُ مَرَضٌ قَلْبِيٌّ بَاطِنِيٌّ فَإِذَا كَانَ الْكِبْرُ مُلْقِيًا صَاحِبَهُ فِي النَّارِ بِحُكْمِ قَوْلِهِ: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: ٦٠] فَضِدُّ أُولَئِكَ نَاجُونَ مِنْهَا وَهُمُ الْمُتَّقُونَ إِذِ التَّقْوَى تَحُولُ دُونَ أَسْبَابِ الْعِقَابِ الَّتِي مِنْهَا الْكِبْرُ، فَالَّذِينَ اتَّقَوْا هُمْ أَهْلُ التَّقْوَى وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ، وَلِذَلِكَ فَفِعْلُ اتَّقَوْا مَنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ.
وَالْمَفَازَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا لِلْفَوْزِ وَهُوَ الْفَلَاحُ، مِثْلَ الْمَتَابِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً [النبأ: ٣١] ، وَلِحَاقُ التَّاءِ بِهِ مِنْ قَبِيلِ لِحَاقِ هَاءِ التَّأْنِيثِ بِالْمَصْدَرِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الْوَاقِعَة: ٢] . وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي اسْمِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٨٨] ، وَالْبَاءُ
لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مُتَلَبِّسِينَ بِالْفَوْزِ أَوِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ مَا حَصَلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَوْزِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَفَازَةُ اسْمًا لِلْفَلَاةِ، كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ:
لِوِرْدٍ تَقْلِصُ الْغِيطَانُ عَنْهُ ... يَبُذُّ مَفَازَةِ الْخِمْسِ الْكَمَالِ
سُمِّيَتْ مَفَازَةً بِاسْمِ مَكَانِ الْفَوْزِ، أَيِ النَّجَاةُ وَتَأْنِيثُهَا بِتَأْوِيلِ الْبُقْعَةِ، وَسَمَّوْهَا مَفَازَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَنْ حَلَّ بِهَا سَلِمَ مِنْ أَنْ يَلْحَقَهُ عَدُوُّهُ، كَمَا قَالَ الْعُدَيْلُ:
وَدُونَ يَدِ الْحَجَّاجِ مِنْ أَنْ تنالني ... بِسَاط بأيدي أَنا عجات عَرِيضُ
وَقَوْلُ النَّابِغَةِ:
تُدَافِعُ النَّاسَ عَنَّا حِينَ نَرْكَبُهَا ... مِنَ الْمَظَالِمِ تُدْعَى أُمُّ صَبَّارِ
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَالْبَاءُ بِمَعْنَى (فِي) . وَالْمَفَازَةُ: الْجَنَّةُ. وَإِضَافَةُ مَفَازَةٍ إِلَى ضَمِيرِهِمْ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ تَلَبُّسِهِمْ بِالْفَوْزِ حَتَّى عُرِفَ بِهِمْ كَمَا يُقَالُ: فَازَ فَوْزَ فُلَانٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِمَفازَتِهِمْ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِمَفَازَاتِهِمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَهِيَ تَجْرِي عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْمَفَازَةِ لِأَنَّ