للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أُدْمِجَ مَعَهَا امْتِنَانٌ، وَلِذَلِكَ عُقِّبَ الْأَمْرَانِ بِقَوْلِهِ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ.

وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يُرِيكُمْ ويُنَزِّلُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِرَاءَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ وَتَنْزِيلٌ مُتَجَدِّدٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْخِطَابَ مُسْتَأْنَفٌ مُرَادٌ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَيْسَ مِنْ بَقِيَّةِ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَهَنَّمَ، وَيَزِيدُ ذَلِكَ تَأْيِيدًا قَوْلُهُ: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [غَافِر: ١٤] .

وَعُدِّيَ فِعْلَا (يُرِي) ويُنَزِّلُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِالْآيَاتِ فَآمَنُوا وَانْتَفَعُوا بِالرِّزْقِ فَشَكَرُوا بِالْعَمَلِ بِالطَّاعَاتِ فَجُعِلَ غَيْرُهُمْ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِ الْمَقْصُودِينَ بِالْآيَاتِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: ٤٣] فَجَعَلَ غَيْرَ الْعَالِمِينَ كَمَنْ لَا يَعْقِلُ وَلَا يَفْقَهُ.

وَلِذَلِكَ ذُيِّلَتْ إِرَاءَةُ الْآيَاتِ وَإِنْزَالُ الرِّزْقِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أَيْ مَنْ آمَنَ وَنَبَذَ الشِّرْكَ لِأَنَّ الشِّرْكَ يَصُدُّ أَهْلَهُ عَنِ الْإِنْصَافِ وَإِعْمَالِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ.

وَالْإِنَابَةُ: التَّوْبَةُ، وَفِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنَابَةَ الْمُحَصِّلَةَ لِلْمَطْلُوبِ هِيَ الْإِنَابَةُ الْمُتَجَدِّدَةُ الْمُتَكَرِّرَةُ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُخَاطَبُونَ مُنِيبِينَ إِلَى اللَّهِ كَانَ قَوْلُهُ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ دَالًّا بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا الْآيَات واطمأنوا بِهَا وَأَنَّهُمْ عَرَفُوا قَدْرَ النِّعْمَةِ وَشَكَرُوهَا فَكَانَ بَيْنَ الْإِنَابَةِ وَبَيْنَ التَّذَكُّرِ تَلَازُمٌ عَادِيٌّ، وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ تَذْيِيلٌ.

وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى مَفْعُولِ يُنَزِّلُ وَهُوَ رِزْقاً لِكَمَالِ الِامْتِنَانِ بِأَنْ جُعِلَ تَنْزِيلُ الرِّزْقِ لِأَجْلِ النَّاسِ وَلَوْ أُخِّرَ الْمَجْرُورُ لَصَارَ صِفَةً لِ رِزْقاً فَلَا يُفِيدُ أَنَّ التَّنْزِيلَ لِأَجْلِ الْمُخَاطَبِينَ بَلْ يُفِيدُ أَنَّ الرِّزْقَ صَالِحٌ لِلْمُخَاطَبِينَ وَبَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ بَوْنٌ بَعِيدٌ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي التَّرْتِيبِ عَلَى مَفْعُولِ الْفِعْلِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ حَقَّ الْمَفْعُولِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الْفِعْلِ وَإِنَّمَا خُولِفَ الظَّاهِرُ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ.