كَانَتْ لِلْيَهُودِ مَحَارِيبٌ لِلْخَلْوَةِ لِلْعِبَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ [مَرْيَم: ١١] وَقَوْلِهِ: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ [آل عمرَان: ٣٧] وَمِنِ اتِّخَاذِ الرُّهْبَانِ النَّصَارَى صَوَامِعَ فِي أَعَالِي الْجِبَالِ لِلْخِلْوَةِ لِلتَّعَبُّدِ، وَوُجُودُهَا عِنْدَ هَذِهِ الْأُمَمِ يدل على أَنه مَوْجُودَةٌ عِنْدَ الْأُمَمِ الْمُعَاصِرَةِ لَهُمْ وَالسَّابِقَةِ عَلَيْهِمْ.
وَالْأَسْبَابُ: جَمْعُ سَبَبٍ، وَالسَّبَبُ مَا يُوصِّلُ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَيُطْلَقُ السَّبَبُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْحَبْلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إِلَى أَعْلَى النَّخِيلِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: طُرُقُ السَّمَاوَاتِ، كَمَا فِي قَوْلِ زُهَيْرٍ:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... وَإِنْ يَرِقْ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وَانْتَصَبَ أَسْبابَ السَّماواتِ عَلَى الْبَدَلِ الْمُطَابِقِ لِقَوْلِهِ: الْأَسْبابَ. وَجِيءَ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ مِنَ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى الْمُرَادِ بِالْأَسْبَابِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا وَشَأْنِ عَمَلِهِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَجِيبٌ لِيُورِدَ عَلَى نَفْسِ مُتَشَوِّقِةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَهِيَ نَفْسُ (هَامَانَ) .
وَالِاطِّلَاعُ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ مُبَالَغَةٌ فِي الطُّلُوعِ، وَالطُّلُوعُ: الظُّهُورُ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ ظُهُورًا مِنِ ارْتِفَاعٍ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ أَوْ عَدَمُهُ بِتَعْدِيَةِ الْفِعْلِ فَإِنْ عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) فَهُوَ الظُّهُورُ مِنِ ارْتِفَاعٍ، وَإِنْ عُدِّيَ بِحَرْفِ (إِلَى) فَهُوَ ظُهُورٌ مُطْلَقٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَطَّلِعَ بِالرَّفْعِ تَفْرِيعًا عَلَى أَبْلُغُ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَبْلَغُ ثُمَّ أَطْلَعُ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابَ التَّرَجِّي لِمُعَامَلَةِ التَّرَجِّي مُعَامَلَةَ التَّمَنِّي وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرُ مَشْهُورٍ، وَالْبَصْرِيُّونَ يُنْكِرُونَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَتَى بَلَغْتُ اطَّلَعْتُ، وَقَدْ تَكُونُ لَهُ هَاهُنَا نُكْتَةٌ وَهِيَ اسْتِعَارَةُ حَرْفِ الرَّجَاءِ إِلَى مَعْنَى التَّمَنِّي عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ إِشَارَةً إِلَى بُعْدِ مَا تَرَجَّاهُ، وَجَعَلَ نَصْبَ الْفِعْلِ بَعْدَهُ قَرِينَةً عَلَى الِاسْتِعَارَةِ.
وَبَيْنَ إِلى وإِلهِ الْجِنَاسُ النَّاقِصُ بِحَرْفٍ كَمَا وَرَدَ مَرَّتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ:
يَمُدُّونَ مِنْ أَيْدٍ عَوَاصٍ عَوَاصِمٍ ... تَصُولُ بِأَسْيَافٍ قَوَاضٍ قَوَاضِبٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute