للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَعَدَلَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى الصِّفَتَيْنِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لِإِدْمَاجِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْإِفْرَادَ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ، بِوَصْفِهِ الْعَزِيزِ لِأَنَّهُ لَا تَنَالُهُ النَّاسُ بِخِلَافِ أَصْنَامِهِمْ فَإِنَّهَا ذَلِيلَةٌ تُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَلْتَصِقُ بِهَا الْقَتَامُ وَتُلَوِّثُهَا الطُّيُورُ بِذَرَقِهَا، وَلِإِدْمَاجِ تَرْغِيبِهِمْ فِي الْإِقْلَاعِ عَنِ الشِّرْكِ بِأَنَّ الْمُوَحَّدَ بِالْإِلَهِيَّةِ يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَلَفَ من شركهم بِهِ حَتَّى لَا يَيْأَسُوا مِنْ عَفْوِهِ بعد أَن أساءوا إِلَيْهِ.

وَجُمْلَةُ لَا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي بَيَانٌ لِجُمْلَةِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ. وَكَلِمَةُ لَا جَرَمَ بِفَتْحَتَيْنِ فِي الْأَفْصَحِ مِنْ لُغَاتٍ ثَلَاثٍ فِيهَا، كَلِمَةٌ يُرَادُ بِهَا مَعْنَى لَا يَثْبُتُ أَوْ لَا بُدَّ، فَمَعْنَى ثُبُوتِهِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ هُوَ بَاقٍ وَكُلُّ ذَلِكَ يُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى حَقَّ وَقَدْ يَقُولُونَ: لَا ذَا جَرَمَ، وَلَا أَنْ ذَا جَرَمَ، وَلَا عَنْ ذَا جَرَمَ، وَلَا جَرَ بِدُونِ مِيمٍ تَرْخِيمًا لِلتَّخْفِيفِ.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ جَرَمَ اسْمٌ لَا فِعْلٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِعْلًا لَكَانَ مَاضِيًا بِحَسَبَ صِيغَتِهِ فَيَكُونُ دُخُولُ لَا عَلَيْهِ مِنْ خَصَائِصِ اسْتِعْمَالِ الْفِعْلِ فِي الدُّعَاءِ.

وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهَا (أَنِ) الْمَفْتُوحَةُ الْمُشَدَّدَةُ فَيُقَدَّرُ مَعَهَا حَرْفُ (فِي) مُلْتَزَمًا حَذْفُهُ غَالِبًا. وَالتَّقْدِيرُ: لَا شَكَّ فِي أَنَّ مَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى لَا جَرَمَ وَأَنَّ جَرَمَ فِعْلٌ أَوْ اسْمٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ فِي سُورَةِ هود [٢٢] .

وَمَا صدق مَا الْأَصْنَامُ، وَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَيْهَا مُفْرَدًا فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ لَهُ مُرَاعَاةً لِإِفْرَادِ لَفْظِ (مَا) .

وَقَوْلُهُ: لَا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ: أَصْحابُ النَّارِ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَتَيْ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ لِأَنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ أَنْ لَا دَعْوَةَ لِلْأَصْنَامِ فِي الدُّنْيَا بِدَلِيلِ الْمُشَاهَدَةِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى، فَقَدْ تَحَقَّقَ أَنَّهَا لَا تُنْجِي أَتْبَاعَهَا فِي الدُّنْيَا وَلَا يُفِيدُهُمْ دُعَاؤُهَا وَلَا نِدَاؤُهَا. وَتَحَقَّقَ إِذَنْ أَنَّ الْمَرْجُوَّ لِلْإِنْعَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي يَدْعُوهُمْ هُوَ إِلَيْهِ. وَهَذَا دَلِيلٌ إِقْنَاعِيٌّ غَيْرُ قَاطِعٍ لِلْمُنَازِعِ فِي إِلَهِيَّةِ رَبِّ هَذَا الْمُؤْمِنِ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ إِقْنَاعَهُمْ