للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كَامِلٍ فَكَانَ عَوْدُ النَّشَاطِ بَطِيئًا وَوَاهِنًا وَلَعَادَ عَلَى الْقُوَّةِ الْعَصَبِيَّةِ بِالِانْحِطَاطِ وَالِاضْمِحْلَالِ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ فَلَمْ يَتَمَتَّعِ الْإِنْسَانُ بِعُمُرٍ طَوِيلٍ. وَمِنْهَا انْتِشَارُ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ فِي النَّهَارِ وَتَبَيُّنُ الذَّوَاتِ بِالضِّيَاءِ، وَبِذَلِكَ تَتِمُّ الْمَسَاعِي لِلنَّاسِ فِي أَعْمَالِهِمُ الَّتِي بِهَا انْتِظَامُ أَمْرِ الْمُجْتَمَعِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْبَوَادِي، وَالْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ، وَكَادِحٌ لِلْعَمَلِ وَالِاكْتِسَابِ، فَحَاجَتُهُ لِلضِّيَاءِ ضَرُورِيَّةٌ وَلَوْلَا الضِّيَاءُ لَكَانَتْ تَصَرُّفَاتُ النَّاسِ مُضْطَرِبَةً مُخْتَبِطَةً.

وَلِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ إِبْصَارِ النَّاسِ فِي الضِّيَاءِ وَكَثْرَةِ الْفَوَائِدِ الْحَاصِلَةِ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَسْنَدَ الْإِبْصَارَ إِلَى النَّهَارِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِقُوَّةِ الْمُلَابَسَةِ بَيْنَ الْأَفْعَالِ وَزَمَانِهَا، فَأَسْنَدَ إِبْصَارَ النَّاسِ إِلَى نَفْسِ النَّهَارِ لِأَنَّهُ سَبَبُ بَعْضِهِ وَسَبَبُ كَمَالِ بَعْضٍ آخَرَ. فَأَمَّا نِعْمَةُ السُّكُونِ فِي اللَّيْلِ فَهِيَ نِعْمَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ رُجُوعُ النَّشَاطِ.

وَفِي ذكر اللَّيْل وَالنَّهَار تَذْكِيرٌ بِآيَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ الشَّمْسُ الَّتِي يَنْشَأُ اللَّيْلُ مِنِ احْتِجَابِ أَشِعَّتِهَا عَنْ نِصْفِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَيَنْشَأُ النَّهَارُ مِنِ انْتِشَارِ شُعَاعِهَا عَلَى النِّصْفِ الْمُقَابِلِ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الِامْتِنَانَ ذَكَرَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ دُونَ الشَّمْسِ، وَقَدْ ذُكِرَتِ الشَّمْسُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَانَ الْغَرَضُ الْأَهَمُّ مِنْهَا الدَّلَالَةَ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ كَقَوْلِهِ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الْأَنْعَام: ٩٦] .

وَدَلَّتْ مُقَابَلَةُ تَعْلِيلِ إِيجَادِ اللَّيْلِ بِعِلَّةِ سُكُونِ النَّاسِ فِيهِ، بِإِسْنَادِ الْإِبْصَارِ إِلَى ذَاتِ

النَّهَارِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ وَإِنَّمَا الْمُبْصِرُونَ النَّاسُ فِي النَّهَارِ، عَلَى احْتِبَاكٍ إِذْ يُفْهَمُ مِنْ كِلَيْهِمَا أَنَّ اللَّيْلَ سَاكِنٌ أَيْضًا، وَأَنَّ النَّهَارَ خُلِقَ لِيُبْصِرَ النَّاسُ فِيهِ إِذِ الْمِنَّةُ بِهِمَا سَوَاءٌ، فَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَفَنُّنِ أُسْلُوبَيِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. وَلَمْ يُعْكَسْ فَيُقَلْ: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ سَاكِنًا وَالنَّهَارَ لِتُبْصِرُوا فِيهِ، لِئَلَّا تَفُوتَ صَرَاحَةُ الْمُرَادِ مِنَ السُّكُونِ كَيْلَا يُتَوَهَّمَ أَنَّ سُكُونَ اللَّيْلِ هُوَ شِدَّةُ الظَّلَامِ فِيهِ كَمَا يُقَالُ: لَيْلٌ سَاجٍ، لِقِلَّةِ الْأَصْوَاتِ فِيهِ.