ذَاتِهِ بِهَذَا النَّهْيِ دُونَ تَشْرِيكِهِمْ فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ الَّذِي تَقَدَّمَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي إِبْلَاغِ هَذَا الْقَوْلِ فَكَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حِينِ نَشْأَتِهِ لَمْ يَسْجُدْ لِصَنَمٍ قَطُّ وَكَانَ ذَلِكَ مَصْرَفَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَنْ ذَلِكَ إِلْهَامًا إِلَهِيًّا إِرْهَاصًا لِنُبُوءَتِهِ.
ولَمَّا حَرْفٌ أَوْ ظَرْفٌ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهِيَ كَلِمَةٌ تُفِيدُ اقْتِرَانَ مَضْمُونِ جُمْلَتَيْنِ تَلِيَانِهَا تُشْبِهَانِ جُمْلَتَيِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَلِذَلِكَ يَدْعُونَهَا (لَمَّا) التَّوْقِيتِيَّةَ، وَحُصُولُ ذَلِكَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، فَقَوْلُهُ: لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي تَوْقِيتٌ لِنَهْيِهِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ بِوَقْتِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ، أَيْ بَيِّنَاتُ الْوَحْيِ فِيمَا مَضَى وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ النَّهْيَ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ وَقْتِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِسْنَادِ الْمَنْهِيَّةِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّعْرِيضُ بِنَهْيِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لَا قَصْدَ مِنْهُ إِلَّا التَّبْلِيغَ لَهُمْ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي الْإِخْبَارِ بِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْهِيٌّ عَنْ أَنْ يعبد الَّذين يدعونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، يَعْنِي: فَإِذَا كُنْتُ أَنَا مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ فَتَأَمَّلُوا فِي شَأْنِكُمْ وَاسْتَعْمِلُوا أَنْظَارَكُمْ فِيهِ، لِيَسُوقَهُمْ إِلَى النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ سَوْقًا لَيِّنًا خَفِيًّا لِاتِّبَاعِهِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا لَا تَعْرِيضًا فِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا [مَرْيَم: ٤٣، ٤٤] وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلنَّائِبِ لِظُهُورِ أَنَّ النَّاهِيَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَرِينَةِ مَقَامِ التَّبْلِيغِ وَالرِّسَالَةِ.
وَمَعْنَى الدُّعَاءِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ تَدْعُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِ الدُّعَاءِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي تَسْأَلُ بِهِ حَاجَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى تَعْبُدُونَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِر: ٦٠] فَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنْ أَنْ يَقُولَ: أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ، تَفَنُّنَا. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّي ابْتِدَائِيَّةٌ، وَجُعِلَ الْمَجْرُورُ بِ (مِنْ) وَصْفَ (رَبٍّ) مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ دُونَ أَنْ يُجْعَلَ مَجْرُورُهَا ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ فِي نُفُوسِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute