وَفِيهِ: «أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ قَدْ جَعَلْتُ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ، الْبَرَكَةَ وَاللَّعْنَةَ» .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِاللَّعْنَةِ الْمَسْطُورَةِ فِي التَّوْرَاةِ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ مَتْلُوَّةٌ دَائِمًا بَيْنَهُمْ فَكُلَّمَا قَرَأَ الْقَارِئُونَ هَذَا الْكَلَامَ تَجَدَّدَتْ لَعْنَةُ الْمَقْصُودِينَ بِهِ، وَالَّذِينَ كَتَمُوا مَا أُنْزِلَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى هم أَيْضا يقرأون التَّوْرَاة فَإِذا قرأوا لَعْنَةَ الْكَاتِمِينَ فَقَدْ لَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَأَمَّا الَّذِينَ يَلْعَنُونَ الْمُجْرِمِينَ وَالظَّالِمِينَ غَيْرَ الْكَاتِمِينَ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَهُمْ غَيْرُ مَشْمُولِينَ فِي هَذَا الْعُمُومِ وَبِذَلِكَ كَانَ الِاسْتِغْرَاقُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ اللَّاعِنُونَ بِاللَّامِ اسْتِغْرَاقًا عُرْفِيًّا.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَامَ الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ وَاسِطَةٌ بَيْنَ لَامِ الْحَقِيقَةِ وَلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ الْحَقِيقِيِّ.
وَإِنَّمَا عَدَلَ إِلَى التَّعْرِيفِ مَعَ أَنَّهُ كَالنَّكِرَةِ مُبَالَغَةً فِي تَحَقُّقِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ صَارَ مَعْرُوفًا لِأَنَّ الْمُنَكَّرَ مَجْهُولٌ، أَوْ يَكُونُ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ أَيْ يَلْعَنُهُمُ الَّذِينَ لَعَنُوهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أَوْصَوْا بِإِعْلَانِ الْعَهْدِ وَأَنْ لَا يَكْتُمُوهُ.
وَلَمَّا كَانَ فِي صِلَةِ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ إِيمَاءٌ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَكُلُّ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا مِنْ قَبِيلِ مَضْمُونِ الصِّلَةِ مِنْ غَيْرِ أُولَئِكَ يَكُونُ حَقِيقًا بِمَا تَضَمَّنَهُ اسْمُ الْإِشَارَةِ وَخَبَرُهُ فَإِنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ فِي ذِكْرِ الْقَصَصِ الْمَاضِيَةِ أَنْ يَعْتَبِرَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كُلَّ مَا ذَمَّ اللَّهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَيْهِ فَالْمُسْلِمُونَ مُحَذَّرُونَ من مثله، وَلذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَمَّا قَالَ النَّاسُ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ حَدِيثًا بَعْدَ أَنْ قَالَ النَّاسُ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى الْآيَةَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ (١) .
فَالْعَالِمُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُمَ مِنْ عِلْمِهِ مَا فِيهِ هُدًى لِلنَّاسِ لِأَنَّ كَتْمَ الْهُدَى إِيقَاعٌ فِي الضَّلَالَةِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي بَلَغَ إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الْخَبَرَ كَالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْعِلْمِ
الَّذِي يَحْصُلُ عَنْ نَظَرٍ كَالِاجْتِهَادَاتِ إِذَا بَلَغَتْ مَبْلَغَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِأَنَّ فِيهَا خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ الَّذِي تُومِئُ إِلَيْهِ الْعِلَّةُ أَنْ يَبُثَّ فِي النَّاسِ مَا يُوقِعَهُمْ فِي أَوْهَامٍ بِأَنْ يُلَقِّنَهَا وَهُوَ لَا يُحْسِنُ تَنْزِيلَهَا وَلَا تَأْوِيلَهَا، فَقَدْ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ»
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ لَا يُحْسِنُونَ وَضْعَهُ.
(١) أخرجه البُخَارِيّ فِي: (٣) «كتاب الْعلم» (٤٢) ، بَاب حفظ الْعلم، حَدِيث (١١٨) . انْظُر «فتح الْبَارِي» (١/ ٢١٣، دَار الْمعرفَة.