للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَرَأَ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق: ١٠] فَقَالُوا أَفَلَا نُحَوِّلُهَا؟ فَقَالَ إِنَّ آيَ الْقُرْآنِ لَا تُهَاجُ الْيَوْمَ وَلَا تُحَوُّلُ، أَيْ لَا تُغَيَّرُ حُرُوفُهَا وَلَا تُحَوَّلُ عَنْ مَكَانِهَا فَهُوَ قَدْ مَنَعَ مِنْ تَغْيِيرِ الْمُصْحَفِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي رَوَاهَا.

وَمِمَّنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِمْ قِرَاءَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِمُصْحَفِ عُثْمَانَ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، إِلَى أَنْ تَرَكَ النَّاسُ ذَلِكَ تَدْرِيجًا.

ذَكَرَ الْفَخْرُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ مِنْ سُورَةِ النُّورِ [١٥] أَنَّ سُفْيَانَ قَالَ سَمِعْتُ أُمِّي تَقْرَأُ: «إِذْ تَثْقَفُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ» وَكَانَ أَبُوهَا يَقْرَأُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ شَذَّتْ مَصَاحِفُ بَقِيَتْ مَغْفُولًا عَنْهَا بِأَيْدِي أَصْحَابِهَا، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ الْفَتْحِ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ صَاحِبَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كَانَ لَهُ مُصْحَفٌ دَفَنَهُ فِي مُدَّةِ الْحَجَّاجِ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : لِأَنَّهُ كَانَ مُخَالِفًا لِلْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، وَقَدْ أَفْرَطَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَوْهِينِ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ لِمُخَالَفَتِهَا لِمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ النُّحَاةُ وَذَلِكَ مِنْ إِعْرَاضِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَسَانِيدِ.

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْقِرَاءَاتِ وَالْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ كُلَّ قِرَاءَةٍ وَافَقَتْ وَجْهًا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَوَافَقَتْ خَطَّ الْمُصْحَفِ- أَيْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ- وَصَحَّ سَنَد روايها فَهِيَ قِرَاءَةٌ صَحِيحَةٌ لَا يَجُوزُ رَدُّهَا، قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ: وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ تَوَاتُرَهَا تَبَعٌ لِتَوَاتُرِ الْمُصْحَفِ الَّذِي وَافَقَتْهُ وَمَا دُونَ ذَلِكَ فَهُوَ شَاذٌّ، يَعْنِي وَأَنَّ تَوَاتر الْمُصحف ناشىء عَنْ تَوَاتُرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي كُتِبَتْ فِيهِ.

قُلْتُ: وَهَذِهِ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ هِيَ شُرُوطٌ فِي قَبُولِ الْقِرَاءَةِ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُتَوَاتِرَةٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنْ كَانَتْ صَحِيحَةَ السَّنَدِ إِلَى النَّبِيِّ وَلَكِنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ التَّوَاتُرِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ فَهِيَ غَنِيَّةٌ عَنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ لِأَنَّ تَوَاتُرَهَا يَجْعَلُهَا حُجَّةً فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَيُغْنِيهَا عَنِ الِاعْتِضَادِ بِمُوَافَقَةِ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ جَمْعًا مِنْ أَهْلِ الْقرَاءَات المتواترة قرأوا قَوْله تَعَالَى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:

٢٤] بِظَاءٍ مُشَالَةٍ أَيْ بِمُتَّهَمٍ، وَقَدْ كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ كُلِّهَا بِالضَّادِ السَّاقِطَةِ.

عَلَى أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ صَنَّفَ كِتَابَ «الْحُجَّةِ» لِلْقِرَاءَاتِ، وَهُوَ مُعْتَمَدٌ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ وَقَدْ رَأَيْتُ نُسْخَةً مِنْهُ فِي مَكَاتِبِ الْآسِتَانَةِ، فَالْقِرَاءَاتُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَا تُفِيدُ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ وَالْمُرَادُ بِمُوَافَقَةِ خَطِّ الْمُصْحَفِ مُوَافَقَةُ أَحَدِ الْمَصَاحِفِ الْأَئِمَّةِ الَّتِي وَجَّهَ بِهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ إِذْ قَدْ يَكُونُ اخْتِلَافٌ يَسِيرٌ نَادِرٌ بَيْنَ بَعْضِهَا، مِثْلَ زِيَادَةِ الْوَاوِ فِي وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ [آل عمرَان: ١٣٣]