الْإِعْرَاضِ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا هُمْ أَيِمَّةُ الْكُفْرِ يَقُولُونَ لِعَامَّتِهِمْ:
لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ هُوَ أَكْمَلُ الْكَلَامِ شَرِيفَ مُعَانٍ وَبَلَاغَةَ تَرَاكِيبَ وَفَصَاحَةَ أَلْفَاظٍ، وَأَيْقَنُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُهُ وَتُدَاخِلُ نَفْسَهُ جَزَالَةُ أَلْفَاظِهِ وَسُمُوُّ أَغْرَاضِهِ قَضَى لَهُ فَهْمُهُ أَنَّهُ حَقٌّ اتِّبَاعُهُ، وَقَدْ أَدْرَكُوا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ غَالَبَتْهُمْ مَحَبَّةُ الدَّوَامِ عَلَى سيادة قَومهمْ فتمالؤوا وَدَبَّرُوا تَدْبِيرًا لِمَنْعِ النَّاسِ مِنِ اسْتِمَاعِهِ، وَذَلِكَ خَشْيَةً مِنْ أَنْ تَرِقَّ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَصَرَفُوهُمْ عَنْ سَمَاعِهِ.
وَهَذَا مِنْ شَأْنِ دُعَاةِ الضَّلَالِ وَالْبَاطِلِ أَنْ يَكُمُّوا أَفْوَاهَ النَّاطِقِينَ بِالْحَقِّ وَالْحُجَّةِ، بِمَا يَسْتَطِيعُونَ مِنْ تَخْوِيفٍ وَتَسْوِيلٍ، وَتَرْهِيبٍ وَتَرْغِيبٍ وَلَا يَدَعُوا النَّاسَ يَتَجَادَلُونَ بِالْحُجَّةِ وَيَتَرَاجَعُونَ بِالْأَدِلَّةِ لِأَنَّهُمْ يُوقِنُونَ أَنَّ حُجَّةَ خُصُومِهِمْ أَنْهَضُ، فَهُمْ يَسْتُرُونَهَا وَيُدَافِعُونَهَا لَا بِمِثْلِهَا وَلَكِنْ بِأَسَالِيبَ مِنَ الْبُهْتَانِ وَالتَّضْلِيلِ، فَإِذَا أَعْيَتْهُمُ الْحِيَلُ وَرَأَوْا بِوَارِقَ الْحَقِّ تَخْفُقُ خَشَوْا أَنْ يَعُمَّ نُورُهَا النَّاسَ الَّذِينَ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ خَيْرٍ وَرُشْدٍ عَدَلُوا إِلَى لَغْوِ الْكَلَامِ وَنَفَخُوا فِي أَبْوَاقِ اللَّغْوِ وَالْجَعْجَعَةِ لَعَلَّهُمْ يَغْلِبُونَ بِذَلِكَ عَلَى حُجَجِ الْحَقِّ وَيَغْمُرُونَ الْكَلَامَ الْقَوْلَ الصَّالِحَ بِاللَّغْوِ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ هَؤُلَاءِ.
فَقَوْلُهُمْ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ تَحْذِيرًا وَاسْتِهْزَاءً بِالْقُرْآنِ، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْقِيرِ كَمَا فِيمَا حُكِيَ عَنْهُمْ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٣٦] .
وَتَسْمِيَتُهُمْ إِيَّاهُ بِالْقُرْآنِ حِكَايَةٌ لِمَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ تَسْمَعُوا بِاللَّامِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: تَطْمَئِنُوا أَوْ تَرْكَنُوا.
وَاللَّغْوُ: الْقَوْلُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَيُسَمَّى الْكَلَامُ الَّذِي لَا جَدْوَى لَهُ لَغْوًا، وَهُوَ وَاوِيُّ اللَّامِ، فَأصل وَالْغَوْا: وَالْغَوْا اسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الْوَاوِ فَحُذِفَتْ وَالْتَقَى سَاكِنَانِ فَحُذِفَ أَوَّلُهُمَا وَسَكَنَتِ الْوَاوُ الثَّانِيَةُ سُكُونًا حَيًّا، وَالْوَاوُ عَلَامَةُ الْجَمْعِ. وَهَذَا الْجَارِي عَلَى ظَاهِرِ كَلَام «الصِّحَاح» و «الْقَامُوس» فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ يُقَالُ: لَغِيَ يَلْغَى، كَمَا يُقَالُ: لَغَا يَلْغُو فَهُوَ إِذَنْ وَاوِيٌّ وَيَائِيٌّ. فَمَعْنَى وَالْغَوْا فِيهِ قُولُوا أَقْوَالًا لَا مَعْنَى لَهَا أَوْ تَكَلَّمُوا كَلَامًا غَيْرَ مُرَادٍ مِنْهُ إِفَادَةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute